عبد العزيز الخبشي: قراءة نقدية في هرطقة "الوساطة" الجزائرية بين المغرب والبوليساريو

عبد العزيز الخبشي: قراءة نقدية في هرطقة "الوساطة" الجزائرية بين المغرب والبوليساريو عبد العزيز الخبشي
في تصريح لا يخلو من الارتباك السياسي، خرج وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف ليعلن – بملامح الواثق ولسان المتردد – استعداد بلاده للقيام بوساطة بين المغرب والبوليساريو، وكأن الجزائر ليست الطرف الرئيسي في النزاع، ولا القوة التي صنعت الكيان الانفصالي، ولا الممول السياسي والعسكري والدبلوماسي له منذ نصف قرن. هذا الخطاب الذي يقدمه أحمد عطاف، بضحالته ومناورته، يكشف عن مفارقة مركزية: كيف يمكن لطرف في قلب الصراع، غارق فيه حتى أذنيه، أن يدعي لعب دور الوسيط المحايد؟ وكيف يمكن لمن لا يعترف حتى بوجود المغرب الشقيق كجار طبيعي، وقطع العلاقات الدبلوماسية معه، أن يقفز فجأة إلى منصة "الوساطة" وكأنه دولة نرويجية في شمال أوروبا؟
 
إن منطق الأمور – قبل التحليل السياسي – يقتضي أن الوساطة لا يمكن أن تتم بين أطراف منقطعة العلاقات، متنافرة المواقع، ولا يوجد بينها أدنى حد من التواصل الدبلوماسي. فمن سيستقبل وفد الجزائر المفترضة وسيطة وهي التي أغلقت سفارتها وسحبت سفراءها وأغلقت الأجواء وقطعت الحبال كلها؟ كيف تكون وسيطا وأنت أول من يجب أن يضع على الطاولة ملف عودة العلاقات، وإعادة السفراء، وتطبيع التواصل؟ لذلك بدا تصريح أحمد عطاف ساذجا من حيث بنيته المنطقية، ومتشنجا من حيث دلالته السياسية، حتى أصبح أقرب إلى المناورة منه إلى المبادرة.
 
لكن القراءة الأعمق تكشف أن الأمر ليس مجرد زلة خطابية، بل محاولة مدروسة من النظام الجزائري لإعداد الرأي العام الداخلي لمرحلة جديدة تفرضها خريطة القوة الدولية حول قضية الصحراء المغربية. فمنذ صدور القرار الأممي لمجلس الأمن رقم 2797، أصبح واضحا أن اتجاه المجتمع الدولي يميل بشكل حاسم نحو تثبيت مقترح الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي وعملي وذي مصداقية، وهو ما يعني عمليا سقوط أسطورة "تقرير المصير" بالمفهوم الذي تتلاعب به الجزائر، وانتهاء وهم "الاستفتاء" الذي ظلت تلوح به الدبلوماسية الجزائرية رغم استحالة تطبيقه.
 
القرار 2797 لم يكن مجرد رقم في سجل القرارات، بل نقطة تحول كبرى في مسار النزاع، لأنه جاء بلغة قوية، ثابتة، تؤكد على مركزية المبادرة المغربية، وتشدد على ضرورة الحل السياسي، وتنتقد بوضوح السلوكيات المعطلة. ومعه جاءت موجة دعم دولية غير مسبوقة للمغرب، لم تعد تقتصر على الدول العربية والإفريقية، بل شملت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، التي أعادت عبر مسؤولين رفيعي المستوى تأكيد دعمها الثابت لمغربية الصحراء، ليس كقرار ظرفي لإدارة سابقة، بل كبنية استراتيجية للرؤية الأمريكية في شمال إفريقيا.
 
هذا الزخم الدولي أربك الجزائر، خصوصا أن واشنطن حددت – في أكثر من مناسبة – سقفا زمنيا للتقدم نحو حل نهائي، ما يعني أن المنطقة على أبواب منعطف حاسم، وأن عزل الجزائر دبلوماسيا سيكون أمرا واقعا إن هي واصلت التشويش وافتعال الأزمات. لذلك يمكن قراءة تصريح أحمد عطاف كجزء من محاولات النظام لإعادة تموضع اضطراري، لا يقوم على قناعة وإنما على الخوف من أن تصبح الجزائر خارج اللعبة تماما.
 
فالجزائر لم تعد قادرة على مجاراة الدينامية الدبلوماسية المغربية، ولا على مواجهة موجة الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء، ولا على تحمل كلفة استمرار دعم البوليساريو في زمن تعاني فيه البلاد من هشاشة اقتصادية واجتماعية خانقة، وانهيار قدرة النظام على شراء السلم الداخلي. لذلك يلجأ النظام إلى خطاب مزدوج: يدعي الوساطة من جهة، ويستمر في دعم الانفصال من جهة أخرى، محاولا الخروج من المأزق دون أن يقر صراحة بأنه الطرف الخاسر في المعادلة.
 
وإذا أمعنا النظر في خطاب أحمد عطاف، سنجد أنه لم يقدم أي تصور واقعي للوساطة، ولم يحدد آليات، ولا إطارا زمنيا، ولا حتى اعترافا ضمنيا بأن الجزائر طرف في النزاع، بل اكتفى بعبارات فضفاضة تصلح للاستهلاك الداخلي. غير أن ما لم يقله هو ما يفهم عمليا: الجزائر تستعد – مرغمة – لمرحلة انفراج مع المغرب، لأن الولايات المتحدة لم تعد تسمح ببقاء الحدود المغلقة، ولا بإهدار الفرص الاقتصادية في المنطقة، ولا بوجود بؤرة توتر تغذيها أطراف تدور في فلك محاور الحرب الباردة الجديدة.
 
من هنا نفهم سبب "الهرطقة" التي جاءت على لسان أحمد عطاف: إنها عملية تمهيد نفسي للشعب الجزائري لتقبل أن النظام سيضطر قريبا للتراجع عن مواقفه العدائية، وإعادة العلاقات، والاعتراف – ولو ضمنيا – بأن مسار الحل في الصحراء أصبح خارج يده. إن النظام الذي ظل يردد أن المغرب "عدو"، وأنه "خطر"، يجد نفسه الآن مضطرا للبحث عن مخارج لائقة تحفظ ماء وجهه أمام شعبه، وفي الوقت نفسه تتيح له الخروج من العزلة الإقليمية.
 
إن التحولات الحاصلة اليوم ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة عمل دبلوماسي مغربي رصين، مدعوم بسلام القوة، وبرؤية استراتيجية واضحة، وبموقف أمريكي لا لبس فيه. ومع كل هذا، تصبح تصريحات أحمد عطاف مجرد صدى خافت لمرحلة تتداعى، وصوتا مرتجفا يحاول إخفاء الحقيقة: الجزائر ليست وسيطا، ولن تكون. هي طرف مباشر في النزاع، انخرطت فيه عقودا، وتدرك اليوم أن مسار التاريخ يمضي في اتجاه آخر، وأن قطار الحل تحرك فعلا، ولم يعد أمامها إلا أن تلحق به أو تبقى خارجه.
 
وبين ادعاء الوساطة وواقع السياسة، يظهر التناقض العميق لخطاب السلطة الجزائرية التي تحاول تغطية الشمس بغربال، بينما العالم يقرأ التطورات بوضوح: الصحراء مغربية، والحل السياسي تحت السيادة المغربية يتقدم، والجزائر لا تستطيع إلا أن تتكيف مع التحول الدولي، مهما ارتفعت نبرة الشعارات، ومهما تجملت تصريحات عطاف بعبارات "الوساطة".