في الثامن عشر من نونبر، لا يستعيد المغرب ذكرى استقلاله فقط، بل يستعيد أيضًا لحظة إفريقية كبرى أعادت رسم ملامح القارة. فإغلاق المغرب لقوس الاستعمار قبل سبعين عامًا لم يكن حدثًا معزولًا، بل جزءًا من موجة تحرر شملت إفريقيا بأكملها، قارة كانت تنهض بصعوبة بعد عشرات السنين من النهب الممنهج، والإقصاء السياسي، والنماذج الاقتصادية المصمَّمة لخدمة العواصم الأوروبية لا شعوبها. كانت البلدان الإفريقية في تلك المرحلة تقف بين زمنين: زمن الهيمنة الذي ترك وراءه مؤسسات هشة، واقتصادًا موجَّهًا للخارج، وبنيات تعليمية وصحية شبه غائبة، وزمن آخر كان يُراد له أن يكون بداية استرجاع السيادة وبناء الدولة الحديثة.
غير أن الاستقلال السياسي لم يكن نهاية التاريخ. فقد خرج الجنود والمديرون والموظفون الاستعماريون، لكن البنية العميقة للعلاقة لم تتغير. كما قال المفكر الكيني الكبير علي مزروعي: “الاستعمار لم يغادر إفريقيا حين خرج جنوده، بل حين خرجت القارة من لغته وروايته.” وهو قول دقيق لأن التبعية ليست حدثًا يُطوى، بل منظومة تمتد داخل الزمن، تعيد إنتاج نفسها عبر الأسواق الدولية، وشبكات الشركات العابرة للحدود، ونظام الدَّيْن الخارجي، والاتفاقيات التجارية غير المتكافئة. ولذلك لم يكن غريبًا أن تظل البنية الاقتصادية للقارة، رغم الاستقلال، مرتبطة عضوياً بمصالح أوروبا، وأن يكون ما خرج من إفريقيا من ثروات يفوق أضعاف ما عاد إليها في شكل استثمارات أو تعاون.
بعد جيلين تقريبًا على الاستقلال، تغيّر وجه القارة. نشأت طبقات وسطى جديدة، وتوسعت الجامعات، وتطورت البنية الصحية، وظهرت نخب فكرية وسياسية تعيد تعريف إفريقيا من منظور أبنائها، لا من منظور المركز الأوروبي. وفي الوقت الذي كان فيه النمو السكاني الإفريقي يزداد حيوية، كانت أوروبا تدخل مرحلة شيخوخة ديمغرافية واقتصادية واضحة. بدايات القرن الحادي والعشرين توحي بأن إفريقيا لم تعد مجرد هامش للسياسة العالمية، بل أحد محركاتها الأساسية، وأن سؤال العدالة التاريخية لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة لإعادة تنظيم علاقة غير متوازنة منذ قرون.
وتكشف الأرقام جزءًا من هذا التاريخ المسكوت عنه. فقد نهبت بريطانيا ما يقارب 260 مليار دولار من كينيا، و250 بليون من مصر، وقرابة 900 مليار من نيجيريا، وأكثر من 1.5 تريليون دولار من جنوب إفريقيا. أما فرنساُ، فقد استخرجت من إفريقيا الغربية والوسطى، طوال الحقبة الاستعمارية، ما يُقدّر بخمسة تريليونات دولار بين معادن، وضرائب قسرية، ونقل قيم اقتصادية. وفي ليبيا، خلفت إيطاليا سجلًا ثقيلًا من السخرة ونهب الأراضي؛ بينما تحول الكونغو تحت الحكم البلجيكي إلى مختبر قاسٍ لاستنزاف الثروات، حيث قدّرت بعض الدراسات حجم النهب بأكثر من تريليون دولار.
ولهذا تبدو كلمات فرانتز فانون شديدة الدقة حين قال: “أوروبا ثرية بقدر ما أفقرت إفريقيا.” ليست هذه الجملة اتهامًا أخلاقيًا، بل توصيفًا لبنية اقتصادية عالمية كانت تقوم على استنزاف القارة. ولذلك فإن أي محاولة لبناء علاقة سليمة بين إفريقيا والعالم تتطلب أولًا الاعتراف بهذه الحقائق، وثانيًا فهم آثارها التي ما زالت ممتدة حتى اليوم.
ولأن العدالة لا تُبنى على الصمت، فإن القارة في حاجة إلى مسارين متلازمين: مسار رسمي تقوده الدول والاتحاد الإفريقي، يُعنى بتوثيق الماضي، وتقدير حجم الخسائر، وفتح حوار متوازن مع القوى الدولية حول أسس شراكة جديدة؛ ومسار مدني يقوده المثقفون والجامعات والمؤرخون لإعادة كتابة التاريخ من داخل إفريقيا، وإحياء الذاكرة الجماعية، وتصحيح صورٍ شوهتها الدعاية الاستعمارية لعقود طويلة. فقبل المطالبة بجبر الضرر، تحتاج إفريقيا إلى امتلاك سرديتها، وإلى إعادة تعريف ذاتها خارج الصور النمطية التي رُسمت لها.
إفريقيا اليوم ليست القارة التي روجت لها المدارس الاستعمارية، بل فضاء جيوسياسي صاعد، شاب، وملئ بالموارد والإمكانات. ومع هذا التحول العميق، يصبح طبيعيًا أن تعود القارة إلى مساءلة تاريخها، لا بروح الانتقام، بل بروح التأسيس لشراكة عادلة تقوم على الاعتراف والاحترام والمصالح المتبادلة.
ومن هنا تنبع فكرة تخصيص “يوم للحقيقة الإفريقية”: يوم تقول فيه القارة إن المصالحة لا تولد من النسيان، وإن العدالة لا تنفصل عن كشف الحقيقة، وإن العلاقة المتوازنة مع العالم لن تُبنى إلا على أساس الإنصاف. يوم تعلن فيه إفريقيا أنها لا تطلب اعتذارًا شكليًا ولا تعويضًا يُفرض من أعلى، بل تطلب احترامًا لحقها في الذاكرة، واعترافًا بنهبٍ وقع، وإرادةً لبناء مستقبل مختلف.
بهذه الروح، يصبح عيد الاستقلال في المغرب، كما في كثير من الدول الإفريقية، ليس فقط ذكرى سياسية، بل مناسبة لإعادة التفكير في علاقة القارة بماضيها وبالعالم، ولطرح سؤال ظلّ مؤجّلًا طويلًا: هل حان زمن الحقيقة والإنصاف