من أغرب ما أفصح عنه "خابور" جزائري ينتمي إلى فئة المثقفين، أو بالأحرى "المسَقّفين" الجزائريين، أنّ هذا "المسقّف" وصف الكاتب الفرنسي، ذي الأصل الجزائري، بوعلام صنصال، بكونه جاسوساً للمغرب، وربما لأنه مثقف ومهذب لم يستعمل تعبير "المخزن المغربي"، واستدل على ذلك بقوله إن صنصال حرص في تصريحاته، التي استدعت اعتقالَه ومحاكمتَه، على نزع أراضٍ جزائرية ومنحها للمغرب، في انتظار نزع تونس أيضا لأراضٍ جزائرية أخرى وضمها إليها... وهلمّ جرا !!
ولم يكن هذا الخابور وحده مَن اتهم صنصال بالتجسس لحساب المغاربة، بل قالها أيضا مسؤول آخر من "بيت الحكمة" في القوة الضاربة، وصف صنصال بالعميل المغربي، وقد زكى ذلك وصدّقه وعمل على نشره على أوسع نطاق الذبابُ الإلكتروني الجزائري، وصحافة "الزيغو"، كما يسميها معارضو ذلك النظام نسبة إلى أنابيب و"روغارات" الصرف الصحي، دون أن يمنح أحدٌ من هؤلاء المُهْلةَ لعقله، إن كان له أساساً عقل، ليفكر فيما ينبغي أن يكون عليه الجواسيس والعملاء الحقيقيون والمحترفون، من السرية، والتماهي، والتخفّي، وانتحال الصفات والهُوِيات المزورة، فضلا عن تلافي الظهور في وسائل الإعلام وأمام الكاميرات، وبتحصيل الحاصل، تلافي الإدلاء بتصريحات يمكن أن تُشْتَمَّ فيها رائحةُ أدنى درجةٍ من الميل للجهة التي يتجسسون لفائدتها، أو يعملون لحسابها، فما بالنا بذلك الكاتب، أقصد صنصال، الذي خرج عبر قناة فرنسية ليحدثنا عن حقائق تاريخية لا يستطيع تكذيبها أو التنكر لها أيُّ عاقل، دون حتى أن يعتبر العاقلون ذلك حركةً مقصوداً منها التقرب إلى المغاربة أو أجهزة المخابرات المغربية، لأنه لو كان الأمر فعلاً على هذا النحو، لما ظهر صنصال أصلا في أي برنامج، ولما أدلى أساساً بأي تصريح، وحتى لو قُدِّر له أن يفعل لكانت تصريحاته "بروجزائرية"، ولكان قد كال فيها للمغرب أقذع النعوت وأسوإ الأوصاف... إننا هنا نتحدث يا حضرات عن المخابرات المغربية، وما أدراك ما المخابرات المغربية!!
أين هي عقول هؤلاء الثقفين والمحللين، أم أن عدوى "الكاس يدور" لحقتهم، هم الآخرين، وأخذت منهم كل مأخَذ حتى باتوا يُهرفون ويقولون ما لا يعرفون؟! هذا من جهة الكاتب بوعلام صنصال شخصياً.
أما من جهة المخابرات المغربية تحديداً، المشهود لها عالمياً بالذكاء والفطنة والاحترافية، وبالريادة على مختلف المستويات، فمن المنطقي والبديهي أنها كانت ستلجأ إلى خدمات بعض الجزائريين بكل تأكيد، ولكن من بين أزلام النظام الجزائري ذاته، المعروفين ظاهرياً بعدائهم المُعلَن للمغرب والمغاربة، ولكل ما يُمِتّ للمغاربة بِصِلة، من الذين يستحيل أن تحوم حولهم شبهات الميل إلى المغرب ولو في الأحلام!!
ولو قُدّر في هذا الإطار أن تُجنّد المخابرات المغربية الكاتب بوعلام صنصال شخصياً، لكنّا رأينا هذا الشخص وسمعناه يسب المغرب وأهله، ويتهم المغاربة قاطبةً بكل الأوصاف القادحة، ولكان قد أكد، مثلاً، في تصريحاته بأنه لا يشرفه أن يذكر المغرب ولو بالاسم، تماماً كما يفعل الإعلام الرسمي الجزائري، الذي مارس حظراً رسميا ومُعلناً على صحافييه ومُخبريه ومحلليه أن يذكروا اسم المغرب، مهما كانت علاقةُ المغرب وثيقةً بما يَبُثّونه من الأخبار... وميدان المنافسات الرياضية شاهد على تَرَسُّخ وتَجَذُّر هذه العقدة السوداء في العقل الجَمْعي في ذلك البلد الجار!!
صنصال لم يفعل سوى أنه قرأ جزءاً يسيراً من تاريخ "الأمبراطورية المغربية الشريفة"، التي كانت جغرافيتُها تمتد شرقاً، قبل فترة الاستعمار، إلى المغرب الأوسط، ومن هنا كنا نُسَمّي مغاربة الشرق ب"الواسطيين"، أو "لُوسَاطا"، وضمّت الأندلس شمالاً، وتمططت جنوباً إلى تومبوكتو، ونهر السنغال، ليس تمدد غزو أو احتلال، بل توسيعاً لرقعة الإسلام، عن طريق التجار والعلماء والفقهاء والقضاة والوجهاء والحرفيين وشيوخ الزوايا، ولذلك لا يزال أهالي كل تلك الامتدادات يذكرون عهود الإمبراطورية المغربية الذكرَ الحسن!!
إذَنْ، فأنْ يُذَكِّر صنصال بهذه الحقائق التاريخية الخالصة، ليس فيه أدنى ميل للمغرب ولا للمغاربة، بقدر ما كان مجرد إقرار بما يحفل به سجلّ التاريخ، الذي لا يَكذِب، ولا يعرف الاستمالة والمحاباة، وبالتالي فما فعله صنصال بذلك التذكير لا يستحق عليه حتى كلمات شكر أو ثناء، لأن قول الحق واجب على كل مثقف يحترم نفسه ويحترم عقل وذكاء مخاطَبيه!!
بل إنني أستطيع أن أحزم بأن "النيف" الذي اشتهر به الجزائريون، رغم ما لحقه من الهدر والتحقير والابتذال على أيدي النظام الحاكم هناك، ذلك النيف بالذات، سيمنع صنصال من أن يُبدي أي تقارب أو ميل تُجاهنا نحن المغاربة، لأنه لم يقصد من تصريحاته أساساً سوى وضع مُحاوِرِه في الصورة وفي المشهد الواقعي لتاريخ المنطقة المغاربية، ولا ريب أنه التزم بهذا المنحى، أيضاً، عند ذكره لجزائر كانت مشتتة ومُفَكَّكة، ولم تكن بالتالي تشكّل أدنى كيانٍ يستحق أن يقال له "دولة"!!
هذا كل ما في الأمر، بلا عمالة، ولا جاسوسية، ولا هُم يحزنون... عجبي!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد