عرف المغرب خلال شهر أكتوبر 2025 عدة أحداث، ستطبع تاريخه لعقود قادمة، أولها الاحتجاجات المفاجئة لجيل z، والتي انطلقت من وقفات احتجاجية أمام مستشفى الحسن الثاني بأكادير، بعد وفاة ثمان نساء حوامل أثناء الولادة، لتنطلق واحدة من أعنف الاحتجاجات منذ 1991، رافعة شعار الحق في الصحة والتعليم والشغل، وقد وجدت الحكومة نفسها عاجزة عن مواجهة هاته الإحتجاجات فانكفأت كل الأحزاب سواء في الأغلبية أو المعارضة عن نفسها خوفا من ردود فعل الشباب. ولحسن الحظ في تزامنت الإحتجاجات الشبابية مع خطاب ملك البلاد في افتتاح البرلمان وانعقاد مجلس وزاري دعا إلى دعم ميزانية الصحة والتعليم والشغل، وتمكين الشباب من دخول الحياة السياسية، بدعمهم ماديا وتبسيط مسطرة ترشحهم ولو بصفة مستقلة.
ولم تكد تمر سوى أيام حتى حقق منتخب الشباب انجازا كرويا عالميا، دفع المغاربة للخروج إلى الشوارع ابتهاجا بهذا الفوز الكبير، ما اعتبر استعادة للحمة الجبهة الداخلية، التي ما كاد شهر أكتوبر يغادرنا حتى توجت بإنجاز تاريخي غير مسبوق، تمثل في تصويت مجلس الأمن على القرار 2797 الذي يعتبر الحكم الذاتي الذي اقترحته المملكة المغربية هو الحل الواقعي والنهائي الذي يجب أن ينطلق على أساسه أي تفاوض مستقبلا..عظمة الحدث وتاريخيته، دفعت جلالة الملك إلى توجيه خطاب عاجل وفوري الى الشعب المغربي مهنئا المغاربة بهذا النصر الكبير الذي ما كان ليتحقق لولا تضحيات المغاربة ملكا وشعبا لأزيد من خمسين سنة، داعيا المغاربة إلى الوحدة والمساهمة في التنمية والبناء، خاصة في ظل ما ينتظر المغرب من استحقاقات تنموية وعلى رأسها الصحة والتعليم والشغل، ورياضية تتمثل في تنظيم كأس افريقيا وكأس العالم، وسياسية وتتمثل في تنفيد القرار الأممي، أولا بإعداد خطة وتصوره لمقترحه وإجراء مفاوضات واستعداده لتطبيق الحكم الذاتي، واستقبال ابنائه العائدين من تندوف...و هو الأمر الذي يحتاج إلى تكاثف الجهود ومضاعفتها.
لقد نجحت الديبلوماسية المغربية بقيادة الملك في تحقيق إنجاز تاريخي، كما نجح في تقوية الجبهة الداخلية بالتفاف الشعب حول الملك في مناسبة سماها بعض المهتمين بمسيرة أخرى وثورة ملك وشعب جديدة.
لكن مادور الحكومة والأحزاب في ما تحقق؟ وهل كانت النخبة السياسية فعلا في مستوى الحدث ؟ هل عملت النخبة السياسية، أغلبية ومعارضة، على دعم هذا الإجماع الوطني والمحافظة عليه؟ أم أنها وجدت نفسها متجاوزة وخارج السياق؟
فالمتتبع للشأن العام لن يجد صعوبة في الجواب، خاصة وهو يشاهد برلمانيا ورئيس فريق أحد أحزاب الأغلبية يتحدث داخل البرلمان عن “الدقيق المدعم وطحن الورق“. في حين أكدت برلمانية أخرى أنه وخلال كورونا “كان يتم إعطاء المغاربة أدوية الحيوانات“، ليخرج برلماني آخر بتصريح يؤكد فيه أن المصحات تقوم “بإجراء عمليات لأشخاص غير مرضى“، قبل أن يختم برلماني آخر، وبحسن نية، بتأكيده على أن سفير إحدى الدول “اعترف بمغربية الصحراء بعد تناول زلافة بيصارة“
الغريب أن كل هاته الأحداث تزامنت وبشكل متتال مع أحداث أخرى مثل ماراج عن مقترح قانون يسجن المشككين في الإنتخابات، وحادث التوظيف، وحادث منح الدكتوراه في سنتين، وما تم ترويجه بشأن تصرف رئيس الحكومة ببني ملال، وهي الأحداث التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، خاصة من طرف فئات تنتظر مثل هاته المواقف، وتحولها لقضايا رأي عام. ليبقى السؤال مطروحا عن نوايا أصحاب هاته الأحداث والغاية منها، ولماذا يصرون على منح هذه الهدايا للآخرين، من منطلق ما يقال “إن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به عدوه“، وإلا ما الداعي إلى مثل هاته التصريحات والأحداث؟
صحيح أننا يمكن أن نجد بعض العذر لممثلي المعارضة، لأن ذلك يندرج ضمن معارضتها وانتقادها للحكومة، لكن ماهي مبررات أن يخرج برلمانيون من الأغلبية بمثل هاته التصريحات، التي شوّشت على هذا الإجماع الوطني، وأثارت الرأي العام لخطورتها وحدّتها؟ هل غاب عنهم السياق الوطني والدولي الذي يعيشه المغرب، وردود الفعل الدولية التي سببها تمرير القرار الأممي؟
بمعنى هل نحن في حاجة لمثل هاته التصريحات؟ وفي مثل هاته الظروف؟ وهل يمكن الوثوق بنخبة كهاته لمواجهة التحديات وكسب الرهانات الكبرى التي تنتظرنا؟ وهل تمتلك هاته النخبة حسا سياسيا بالفعل؟ وإلا لماذا جعلت من المغرب حديثا لفضائح الصحف والقنوات العالمية، بعد أن كان منذ أيام فقط حديث العالم بمناسبة إنجازه الرياضي، وإنجازه الأممي الكبير؟ أم أن الأمر فعلا يحتاج إلى إعادة النظر في هاته النخب، والإنفتاح على نخب جديدة، واستقطاب كفاءات قادرة على مسايرة الإنتصارات الديبلوماسية وترسيخها وطنيا ودوليا، والدفاع عما يتحقق من منجزات ومشاريع، والعمل على تدارك الصعاب والإكراهات، وبالتالي تستطيع تأطير الرأي وتوجيهه، وعدم تركه عرضة للمغرضين، ولتجاذبات وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أكثر خطورة بسبب سرعتها وامتداداتها الجماهيرية، وقدرتها الكبيرة على التأثير، بسبب التفاعلية والصورة وقدرتها الفائقة على الاسترجاع، وهي مَهام لا يمكن تحقيقها بنخب لا تحسن قراءة السياق وتتعامل مع قضايا وطنية هامة من منطلق سياسي ربحي ضيق.
فهل يمكن ربح الرهان من جديد، أم أن الديمقراطية بشكلها الحالي، وبمثل هاته الأحزاب والنخب والإعلام ستكون واحدا من العراقيل التي تمنع المغرب من تحقيق تنمية شاملة وتقدم كبير وانتقال ديمقراطي، بسبب مساهمتها في ايصال مثل هذه النخب إلى مراكز القرار والمؤسسات المنتخبة، وبالتالي يتحقق عليها ماقاله ونستون تشرشل حين أكد على “أن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي جرّبت“.
عزيز المنتاج، أستاذ باحث في الإعلام والتواصل