الانتخابات على الأبواب.. هل من سبيل لتحصين البرلمان؟

الانتخابات على الأبواب.. هل من سبيل لتحصين البرلمان؟ مشهد للبرلمان المغربي
واقعة‭ ‬تحوّل‭ ‬طبق‭ ‬"البيصارة"،‭ ‬رمز‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬المغاربة،‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬للتندر‭ ‬السياسي‭ ‬ليست‭ ‬مزحة‭ ‬عابرة‭ ‬ولا‭ ‬طرفة‭ ‬تروى‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭. ‬الأمر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬حادثة‭ ‬معزولة،‭ ‬وأن‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬البرلمانيين،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الوزراء،‭ ‬بات‭ ‬يختزل‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬خرجات‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬الرداءة‭ ‬الفجة‭ ‬والجهل‭ ‬الفاضح،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬المواطن‭ ‬إحباطا‭ ‬عميقا‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعكس‭ ‬ثقته‭ ‬ولا‭ ‬تمثله‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحقيقي‭.‬

لقد‭ ‬سمح‭ ‬البث‭ ‬التلفزيوني‭ ‬لجلسات‭ ‬البرلمان،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬التصريحات‭ ‬الإعلامية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬البرلمانيين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنبر‭ ‬الإلكتروني‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬أوفي‭ ‬هذه‭ ‬المنصة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬بإماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬المستوى‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬الحقيقي‭ ‬لممثلي‭ ‬الشعب،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬هؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يتوقفون‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬المواقف‭ ‬الهزلية‭ ‬المثيرة‭ ‬للسخرية،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المراقبين‭ ‬الظرفاء‭ ‬قدموا‭ ‬اقتراحا‭ ‬بتنظيم‭ ‬«مسابقة»‭ ‬يحتضنها‭ ‬البرلمان‭ ‬لتعزيز‭ ‬صفوف‭ ‬الفكاهة‭ ‬الوطنية!‭ ‬

يظهر‭ ‬إذن،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النوادر‭ ‬والطرائف‭ ‬البرلمانية،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة،‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬فقدت‭ ‬لغتها‭ ‬الرصينة،‭ ‬واستسلمت‭ ‬لمنطق‭ ‬الاستعراض‭ ‬والتفاهة،‭ ‬حيث‭ ‬تكفي‭ ‬نكتة‭ ‬أو‭ ‬حركة‭ ‬بهلوانية‭ ‬كي‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬سياسي‭ ‬كامل،‭ ‬يستعمله‭ ‬هذا‭ ‬ضد‭ ‬ذاك،‭ ‬بل‭ ‬يُستعمل‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التعمية‭ ‬وإثارة‭ ‬الغبار‭ ‬حول‭ ‬القضايا‭ ‬الأساسية‭ ‬والحيوية‭ ‬التي‭ ‬تهم‭ ‬المواطنين‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬قانون‭ ‬المالية،‭ ‬وفي‭ ‬ذروة‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬العدالة‭ ‬المجالية‭ ‬وإنصاف‭ ‬شريط‭ ‬الجبال‭ ‬والواحات،‭ ‬وفي‭ ‬حمأة‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬القادمة،‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والانتخابية‭.‬‭ ‬

لقد‭ ‬دأب‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬على‭ ‬تلقف‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الهزلي‭ ‬الساقي‭ ‬بمزيج‭ ‬من‭ ‬الغضب‭ ‬والسخرية،‭ ‬لكن‭ ‬خلف‭ ‬الضحك‭ ‬هناك‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬بوضوح‭ ‬كامل:‭ ‬أيّ‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬البرلمانيين‭ ‬أصبح‭ ‬يمثّل‭ ‬الأمة؟‭ ‬وكيف‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬درجةٍ‭ ‬يُكافأ‭ ‬فيها‭ ‬الهزل‭ ‬السخيف‭ ‬بالتصفيق،‭ ‬وتُقصى‭ ‬الكفاءة‭ ‬بالصمت؟‭ ‬

إنها‭ ‬ليست‭ ‬حكاية‭ ‬«السيمو»‭ ‬الذي‭ ‬حول‭ ‬«البيصارة»‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬ناجع‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الإقناع‭ ‬الدولي،‭ ‬فالأصح‭ ‬أنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬تتراكم‭ ‬بين‭ ‬ظهرانيننا‭ ‬باستمرار،‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الملك‭ ‬الراحل‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬البرلمان‭ ‬بـ‭ ‬«السيرك»،‭ ‬وتكاد‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬جلسة‭ ‬من‭ ‬جلسات‭ ‬البرلمان‭ ‬بغرفتيه،‭ ‬مما‭ ‬جعلنا‭ ‬أمام‭ ‬طبقة‭ ‬سياسية‭ ‬هجينة‭ ‬لا‭ ‬تخجل‭ ‬من‭ ‬نفسها،‭ ‬ولا‭ ‬تولي‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ ‬للتقريع‭ ‬الشعبي،‭ ‬ولا‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية،‭ ‬ولا‭ ‬تفقه‭ ‬شيئا‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬التمثيل‭ ‬الانتخابي،‭ ‬ولا‭ ‬يعنيها‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬«التعبيرات‭ ‬الجاهلة»‭ ‬استخفافٌ‭ ‬بعقول‭ ‬المواطنين‭ ‬وعبث‭ ‬بصورة‭ ‬السياسة‭ ‬والسياسيين‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬يعتبر‭ ‬لحظة‭ ‬كاشفة‭ ‬لأزمة‭ ‬أعمق‭ ‬تضرب‭ ‬البنية‭ ‬التمثيلية‭ ‬من‭ ‬الداخل‭. ‬فحين‭ ‬يصل‭ ‬برلماني‭ ‬إلى‭ ‬استعمال‭ ‬«طبق‭ ‬شعبي»‭ ‬أو‭ ‬«أعمدة‭ ‬كهرباء»‭ ‬أو‭ ‬«طريق‭ ‬محفرة»‭ ‬أو‭ ‬«دقيق‭ ‬الكاغيط»،‭ ‬لتواصله‭ ‬مع‭ ‬المواطنين،‭ ‬ويُقدَّم‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬رسمي‭ ‬بوجه‭ ‬ضاحك‭ ‬وكأنه‭ ‬إنجاز‭ ‬سياسي‭ ‬مبين،‭ ‬فإننا‭ ‬أمام‭ ‬تجسيد‭ ‬حي‭ ‬لمعضلة‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬المنظومة‭ ‬المؤسساتية‭ ‬التي‭ ‬أنتجته‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬«الظاهرة»‭ ‬تكشف‭ ‬بوضوح‭ ‬عن‭ ‬اختلال‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬السياسي،‭ ‬وعن‭ ‬خللٍ‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬الانتقاء‭ ‬الحزبي‭ ‬التي‭ ‬أفرزت‭ ‬نخبا‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬إلا‭ ‬قشرتها،‭ ‬كما‭ ‬تكشف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خللا‭ ‬في‭ ‬مقاييس‭ ‬إنتاج‭ ‬النخبة،‭ ‬ليس‭ ‬لدى‭ ‬الأحزاب‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬لدى‭ ‬الجهاز‭ ‬السياسي‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬«الأمي»‭ ‬و«المتعلم»،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬«الجاهل»‭ ‬و«العاقل»،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬«الخبير»‭ ‬و«المدعي»،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬«السياسي»‭ ‬و«البهلوان»‭.‬

لم‭ ‬يُخلق‭ ‬البرلمان‭ ‬للفرجة‭ ‬كيفما‭ ‬كان‭ ‬نوعها،‭ ‬ولا‭ ‬لإنتاج‭ ‬الطرائف‭ ‬والهزليات‭. ‬وُجد‭ ‬ليُمارس‭ ‬التشريع‭ ‬والرقابة‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المواطنين‭ ‬الحيوية‭. ‬لكنّ‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬اليوم‭ ‬داخل‭ ‬القبة‭ ‬التشريعية‭ ‬يُوحي‭ ‬بأن‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬البرلمانيين‭ ‬أصبح‭ ‬مقترنا‭ ‬بتجارب‭ ‬التمييع‭ ‬والأداء‭ ‬الفكاهي‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬«البوز»‭ ‬التصفيق‭ ‬والإعجاب،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية‭ ‬ليست‭ ‬فضاء‭ ‬للاستعراض‭ ‬لعضلات‭ ‬الكلام‭ ‬و«ضريب‭ ‬الطر»‭ ‬و«التحراميات»؛‭ ‬البرلمان‭ ‬عمود‭ ‬ديمقراطي‭ ‬من‭ ‬أعمدة‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬الضامنة‭ ‬لتوازن‭ ‬السلطات‭ ‬ومساءلة‭ ‬الحكومة‭ ‬وصون‭ ‬الإرادة‭ ‬الشعبية‭. ‬وحين‭ ‬تتحول‭ ‬جلساته‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬للتندر‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الخلل‭ ‬تغلل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬والبيئة‭ ‬الانتخابية‭ ‬التي‭ ‬سمحت‭ ‬لهؤلاء‭ ‬بالوصول‭ ‬إليه‭.‬

فالجلسة‭ ‬البرلمانية‭ ‬التي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لحظة‭ ‬جِدٍّ‭ ‬وصرامة،‭ ‬صارت‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬لحظة‭ ‬نزق‭ ‬جماعية،‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬المواطن‭ ‬بانطباع‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬لعبة‭ ‬الجهلة‭ ‬والفاسدين‭ ‬ونزلاء‭ ‬السجون‭ ‬وتجار‭ ‬المخدرات‭ ‬و‮ ‬«الجيفة‭ ‬وما‭ ‬عاف‭ ‬السبع»،‭ ‬وأن‭ ‬الفاعلين‭ ‬فيها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المهرجين‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬الممثلين‭ ‬الحقيقيين‭ ‬للأمة‭. ‬

إن‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬«برلمانيو‭ ‬الميوعة»‭ ‬تسيء‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها،‭ ‬لأنها‭ ‬تفرغ‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية‭ ‬من‭ ‬معناها،‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬مضمار‭ ‬سباق‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الأضواء‭ ‬خارج‭ ‬التعاقد‭ ‬الذي‭ ‬تطرحه‭ ‬التمثيلية‭ ‬البرلمانية‭. ‬وهذا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العوامل:
 
أولا‭:‬‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ضعف‭ ‬التأطير‭ ‬الحزبي،‭ ‬تحول‭ ‬الاهتمام‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كلي‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬«الرأسمال‭ ‬الانتخابي»،‭ ‬إذ‭ ‬صار‭ ‬المعيار‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬المرشحين‭ ‬هو‭ ‬مدى‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬ضمان‭ ‬الأصوات،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفكار‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬كيف‭ ‬تحوّلت‭ ‬بعض‭ ‬الدوائر‭ ‬الانتخابية‭ ‬إلى‭ ‬مزارع‭ ‬شخصية،‭ ‬وكيف‭ ‬أصبحت‭ ‬المقاعد‭ ‬البرلمانية‭ ‬تُمنح‭ ‬كما‭ ‬تُمنح‭ ‬الامتيازات،‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬تُنتزع‭ ‬بالجدارة‭.‬
 
ثانيا‭:‬‭  ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬تخلّت‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬«النخبة‭ ‬السياسية»‭ ‬التي‭ ‬تُفرزها‭ ‬الكفاءة‭ ‬والتجربة‭ ‬والفكر‭ ‬والتدرج‭ ‬في‭ ‬المواقع‭ ‬والمسؤوليات‭ ‬الحزبية،‭ ‬واستبدلتها‭ ‬بمعيار‭ ‬«القدرة‭ ‬على‭ ‬الحشد»‭ ‬و«الشعبية‭ ‬العابرة»‭ ‬و«مول‭ ‬الشكارة»‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬التزكية‭ ‬وتمويل‭ ‬الحملة‭ ‬الانتخابية‭ ‬وشراء‭ ‬الذمم‭ ‬والأصوات‭. ‬إذ‭  ‬أصبح‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان‭ ‬خاضعا‭ ‬لحسابات‭ ‬انتخابية‭ ‬ضيقة‭ ‬وولاءات‭ ‬شخصية‭ ‬وانتفاعية‭. ‬كما‭ ‬أصبحنا‭ ‬أمام‭ ‬قاعدة‭  ‬«مرشح‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حزب»‭ ‬بدل‭ ‬قاعدة‭ ‬«مناضل‭ ‬يترشح»‭. ‬وهكذا‭ ‬ضاعت‭ ‬فكرة‭ ‬«الحزب‭ ‬السياسي»‭ ‬باعتباره‭ ‬حاملاً‭ ‬لمشروع‭ ‬مجتمعي،‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬واجهة‭ ‬قانونية‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسات‭.‬
 
ثالثا‭:‬‭ ‬ترك‭ ‬الحبل‭ ‬على‭ ‬الغارب‭ ‬أمام‭ ‬هؤلاء‭ ‬الوافدين‭ ‬الجاهلين‭ ‬ليتغلغلوا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬بلا‭ ‬حسيب‭ ‬ولا‭ ‬رقيب‭. ‬وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬استقالت‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬تنقية‭ ‬المسارب‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بتنقية‭ ‬البرلمان‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬وغربلة‭ ‬البرلمانيين‭ ‬وتحسين‭ ‬نسلهم‭.‬
 
رابعا‭:‬‭ ‬الجهل‭ ‬بلغة‭ ‬التواصل‭ ‬السياسي،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬«البرلمانيين‭ ‬الفكاهيين»‭ ‬يخلطون‭ ‬بين‭ ‬التواصل‭ ‬الشعبي‭ ‬والميوعة‭ ‬السياسية،‭ ‬ويظنون‭ ‬أن‭ ‬الظهور‭ ‬بمظهر‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬استعمال‭ ‬قاموس‭ ‬الشارع،‭ ‬أو‭ ‬توظيف‭ ‬الرموز‭ ‬الشعبية‭ ‬لتبرير‭ ‬غياب‭ ‬الرؤية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬السياسة‭ ‬هو‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬خطابٍ‭ ‬يفهم‭ ‬الناس‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُهين‭ ‬ذكاءهم،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬سخريتهم‭ ‬أو‭ ‬امتعاضهم‭ ‬أو‭ ‬تقززهم،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬يفسد‭ ‬علاقتهم‭ ‬بالمؤسسة‭ ‬التشريعية‭.‬
 
خامسا‭:‬‭ ‬التطبيع‭ ‬الإعلامي‭ ‬مع‭ ‬الابتذال،‭ ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬طرائف‭ ‬الميوعة‭ ‬البرلمانية‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬إعلامي‭ ‬واسع،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬أزمة‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الإعلام،‭ ‬مثلما‭ ‬يعكس‭ ‬انحرافا‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬السياسية‭ ‬لدى‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬النخبة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الغاية‭ ‬هي‭ ‬الإقناع‭ ‬العلمي‭ ‬أو‭ ‬الفكري،‭ ‬بل‭ ‬دغدغة‭ ‬المشاعر‭ ‬وإثارة‭ ‬الضحك‭ ‬ونشر‭ ‬التفاهة‭ ‬على‭ ‬أوسع‭ ‬نطاق،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬هذا‭ ‬الإعلام‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬المواطن‭ ‬بوصفه‭ ‬مستهلكا‭ ‬لصور‭ ‬عابرة‭ ‬سريعة‭ ‬التأثير‭.‬
 
سادسا‭:‬‭ ‬الجمهور‭ ‬نفسه‭ ‬بدأ‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬«الفرجة‭ ‬السياسية»،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬واحدة‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬المرسل‭ ‬والمتلقي:‭ ‬التبخيس‭ ‬وتقديم‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬كمساحة‭ ‬للتسلية،‭ ‬ومجال‭ ‬حيوي‭ ‬للتفاهة‭ ‬والفساد‭ ‬وإهدار‭ ‬الفرص‭.‬
 
لا‭ ‬يقتصر‭ ‬خطر‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬على‭ ‬تشويه‭ ‬صورة‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية‭. ‬فحين‭ ‬يرى‭ ‬المواطن‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬يمثله‭ ‬يتحدث‭ ‬بسطحية‭ ‬وجهل‭ ‬وعدم‭ ‬اكتراث‭ ‬ويُسيء‭ ‬إلى‭ ‬مقام‭ ‬المؤسسة،‭ ‬فإنه‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬السياسة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬شأنا‭ ‬جديا،‭ ‬وأن‭ ‬المشاركة‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬منها،‭ ‬مما‭ ‬يدخل‭ ‬البلاد‭ ‬بكاملها‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬مغلقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬كسرها‭ ‬إلا‭ ‬بإصلاح‭ ‬جذري‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬نفسها‭ ‬ومن‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية‭ ‬والسلطة‭ ‬القضائية‭ ‬الوصيتان‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬الانتخابية‭ ‬وعلى‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬المسلسل‭ ‬السياسي،‭ ‬كما‭ ‬يشمل‭ ‬الإعلام‭ ‬الذي‭ ‬يُفضّل‭ ‬المشهد‭ ‬المثير‭ ‬على‭ ‬الخطاب‭ ‬الرصين،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬العمل،‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬التنشئة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬على‭ ‬إقرار‭ ‬تربية‭ ‬الجمهور‭ ‬على‭ ‬النقاش‭ ‬التشريعي‭ ‬الجاد‭.‬
 
‭ ‬يحتاج‭ ‬المغرب‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لفكرة‭ ‬«التمثيلية‭ ‬السياسية»‭ ‬من‭ ‬أساسها‭. ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬«الميوعة‭ ‬البرلمانية»‭ ‬دون‭ ‬إجراءات‭ ‬حقيقية‭ ‬تعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬وصولهم‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان‭. ‬فالإصلاح‭ ‬الحقيقي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الاختيار،‭ ‬وأيضا‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬إعداد‭ ‬اللوائح‭ ‬الانتخابية،‭ ‬ومن‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬تعتمدها‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬التزكيات،‭ ‬ومن‭ ‬شروط‭ ‬الترشح‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يُربط‭ ‬بالكفاءة‭ ‬السياسية‭ ‬والتأطير‭ ‬المسبق‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬التشريع‭ ‬والرقابة‭ ‬والمرافعة،‭ ‬ومن‭ ‬فحص‭ ‬الملفات‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية‭ ‬والقضاء‭ ‬للغربلة‭ ‬وإبعاد‭ ‬المشبوهين،‭ ‬وإلا‭ ‬فإننا‭ ‬سنظل‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬التافهة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أي‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬مواكبة‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والدبلوماسية‭. ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬بلد‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البنيات‭ ‬التحتية‭ ‬الضخمة‭ ‬وتحديث‭ ‬مؤسساته‭ ‬الأمنية‭ ‬والعسكرية‭ ‬وأوراشه‭ ‬الكبرى‭ ‬المهيكلة‭ ‬للتراب‭ ‬الوطني،‭ ‬بينما‭ ‬يتعثر‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬نخب‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭. ‬
 
ما‭ ‬نحتاجه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬استعادة‭ ‬الهيبة‭ ‬المفقودة‭ ‬للمؤسسات،‭ ‬ورد‭ ‬الاعتبار‭ ‬للعمل‭ ‬البرلماني‭ ‬والحزبي‭ ‬حيث‭ ‬تُصنع‭ ‬القرارات‭ ‬وتُبنى‭ ‬الرؤى‭. ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬تبث‭ ‬فيها‭ ‬السكيتشات‭ ‬والقفشات‭ ‬الهزلية‭ ‬الحامضة‭ ‬على‭ ‬المباشر‭. ‬إننا‭ ‬بالفعل‭ ‬أمام‭ ‬اختبار‭ ‬حقيقي:‭ ‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬المغرب‭ ‬أن‭ ‬يفرز‭ ‬نخبا‭ ‬جديدة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬منطق‭ ‬«البيصارة‭ ‬السياسية»‭ ‬واستعادة‭ ‬معنى‭ ‬السياسة‭ ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬سنواصل‭ ‬التصفيق‭ ‬للمشهد‭ ‬ذاته‭ ‬وننتظر‭ ‬نتيجة‭ ‬مختلفة؟
 
تفاصيل أوفر تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن
رابط العدد هنا