تفكّك الجامعية أمال بنبراهيم، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، كيفية تنزيل مقترح الحكم الذاتي بعد مصادقة مجلس الأمن على القرار 2797وهو نقطة انطلاق لتفعيل أمثل للجهوية المتقدمة، على ضوء التجارب الدولية في فيلندا وإسبانيا قوامها ثلاث مبادئ أساسية تتمثل في الوضوح والدّقّة الدستورية والمؤسّساتية في توزيع الصلاحيات بين المركز والأطراف، التمثيلية الحقيقية التي تتيح للسكان انتخاب مؤسساتهم المحلية بكل شفافية، بالإضافة إلى ضمان السّيادة والوحدة الوطنيتين من خلال احترام المقتضيات الدستورية.
في ما يلي نصّ الحوار:
على ضوء الخطاب الملكي والقرار الأممي حول الحكم الذاتي رقم 2797، ما سبل تنزيل الحكم الذاتي؟ وكيف؟ وما الصلاحيات؟
القرار الأممي رقم 2797 (31 أكتوبر 2025) يشكل بكل تأكيد محطة فارقة ونوعية في مسار التعاطي مع ملف الصحراء المغربية، إذ جاء ليكرّس بوضوح مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتبارها الحل الأكثر قابلية للتطبيق والأكثر استدامة لهذا النزاع، وهو ما يعكس بوضوح التحول العميق في مواقف المنتظم الدولي تجاه هذا الملف الذي عمر طويلا بأروقة المنظمة الأممية، كما يعكس أيضا قناعة راسخة لدى الدول الكبرى المؤثرة في مجلس الأمن بأن المقاربة المغربية تنبني على الواقعية والعملية.
وفي هذا السياق، فإن تنزيل مشروع الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية يشكل مسارا استراتيجيا ذا أبعاد دستورية وسياسية وتنموية، ويقوم على مقاربة متدرجة ترتكز على مبدأي السيادة الوطنية والجهوية المتقدمة، في تماش مع المبادرة التي قدمتها بلادنا إلى هيئة الأمم المتحدة سنة 2007، والتي وضعت تصورا متقدما للحكم الذاتي ضمن وحدة الدولة وسيادتها الترابية.
وتنصّ المبادرة على أن سكان الأقاليم الجنوبية سيتولون في إطار ديموقراطي تشاركي تدبير شؤونهما المحلية من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية تتمتع بصلاحيات حقيقية وفعلية وموارد مالية كافية تتيح لهم المساهمة الفعلية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد.
ومن المرتقب أن تعرف المبادرة تحيينا وتفصيلا لمقتضياتها كي تتلاءم مع التحولات التي أفرزها دستور 2011 ومع التطور المؤسسي الذي عرفه المغرب، بل ويمكن أن يواكب هذا التحيين تعديلات دستورية لتأطير النموذج الترابي الجديد.
وفي هذا الإطار، ستمارس الجهات الصحراوية صلاحياتها في مجالات التعليم، والثقافة، والتنمية الاقتصادية، والبيئة، والبنيات التحتية، في إطار مبادئ التدبير الحر والمساءلة الديمقراطية، بما يمكن السّكان المحليين من مشاركة فعلية في تدبير شؤونهم وتنمية منطقتهم. بالموازاة تحتفظ الدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الضامنة للوحدة الوطنية واستمراريتها من قبيل: العلم الوطني كونه رمزا للسيادة، وشخص الملك بصفته رئيس الدولة وضامن وحدة الأمة، بالإضافة إلى الدفاع الوطني والقوات المسلحة الملكية، والعلاقات الخارجية والسياسة الدبلوماسية، والنظام النقدي والعملة الوطنية، والقضاء الأعلى والمؤسسات الدستورية السيادية، فضلا عن الهوية الوطنية والدينية. هذا التوزيع من شأنه أن يحقّق الانسجام والتوازن بين الاستقلال الإداري والسيادة الوطنية في نموذج يزاوج بين اللامركزية ووحدة البلاد.
وما السّياق الذي أدّى إلى بروزه في عدد من دول العالم؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأين طبّق لأوّل مرّة ؟ وما النّموذج الأمثل؟
مفهوم الحكم الذاتي ظهر في سياق التحولات السياسية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وأصبح مبدأ تقرير المصير أحد المرتكزات الأساسية للنظام الدولي الجديد، كما نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، في تزامن مع تزايد حركات التحرر وتصاعد مطالبة الشعوب الواقعة تحت الاستعمار بحقها في الاستقلال، وهو ما دفع المجتمع الدولي إلى البحث عن آليات سياسية مرنة تنظم العلاقات بين المركز والأطراف وتكون بمثابة صيغ معتدلة ووسطية توازن بين احترام الوحدة الترابية للدول وتتيح للشعوب ذات الخصوصيات الثقافية المختلفة ممارسة نوع من الإدارة الذاتية.
وكان أول تطبيق عملي للحكم الذاتي في جزر آلاند التابعة لفنلندا سنة 1920، عندما ارـتأت عصبة الأمم آنذاك تمكينها من نظام ذاتي خاص يضمن لسكانها الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم السويدية تحت السيادة الفنلندية. هذه التجربة ألهمت دولا أخرى كإسبانيا وإيطاليا والدانمارك والعراق، التي تبنت نموذج الحكم الذاتي أنظمة لحماية توازنها الداخلي وتعزيز استقرارها السياسي. خاصة مع تزايد الحاجة لمنع النزاعات الانفصالية، وتطور الفكر الدستوري الحديث.
ويمكن القول إن النموذج الإسباني يعتبر من النماذج المعاصرة الأكثر نجاحا وتوازنا. فمنذ 1978 عندما أقر الدستور الإسباني نظام الدولة المركبة من قوميات ومناطق ومنح أقاليم مثل كاتالونيا والباسك وغاليسيا، صلاحيات واسعة في مجالات التشريع والتعليم والثقافة والمالية، مع الاحتفاظ بالسيادة العامة للدولة الإسبانية.
وعموما، فإن الحكم الذاتي ليس مجرد خيار إداري، بل هو نهج سياسي متطور لإدارة التنوع وضمان الاستقرار الداخلي في ظل السيادة الوطنية.
لكن، كيف يمكن لبلادنا أن تستفيد من التّجارب الدّولية لتنزيله على أرض الواقع في المغرب؟
أعتقد أن المقترح المغربي للحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية، هو استمرار لتطور هذا النموذج إذ يزاوج بين المرجعية الأممية، والواقعية السياسية، والنجاعة المؤسساتية، وهو ما من شأنه أن يجعله نموذجا متقدما عربيا وإفريقيا. ومع ذلك يمكن للمغرب أن يستفيد من التجارب الدولية المقارنة التي نجحت في تحقيق توازن بين السيادة الوطنية والتدبير الذاتي المحلي، مثل التجارب الإسبانية والفنلندية والإيطالية والدانماركية.
وفي هذا السّياق، فإن نجاح التجارب الأوروبية قام على ثلاثة دعامات رئيسية: الوضوح والدّقّة الدستورية والمؤسّساتية في توزيع الصلاحيات بين المركز والأطراف، التمثيلية الحقيقية التي تتيح للسكان انتخاب مؤسساتهم المحلية بكل شفافية، بالإضافة إلى ضمان السيادة والوحدة الوطنيتين من خلال احترام المقتضيات الدستورية.
وبالنظر إلى هذه الركائز، يمكن للمغرب أن يستفيد من النموذج الإسباني الذي يعتبر النموذج الأكثر نضجا في العالم الديمقراطي الحديث، ويقدم مثالا عمليا يمكن الاستلهام منه مع تعديله وتكييفه بما يتواءم مع الخصوصيات الوطنية. كذلك النموذج الفنلندي برهن على أهمية الضمانات الدولية والاحترام المتبادل للهوية المحلية ضمن الدولة الأم، وهو ما ينسجم تمما مع رؤية المملكة التي تجعل من الحكم الذاتي حلا في إطار السيادة المغربية الكاملة، ووفق الشرعية الأممية كما نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2797 لسنة 2025.
عمليا، يمكن للمغرب أن يترجم نموذجه إلى خطة تنفيذية متدرجة تقوم على إرساء منظومة مؤسساتية متكاملة: قانون أساسي خاص يحدد صلاحيات المؤسسات الجهوية المنتخبة، برلمان جهوي وسلطة تنفيذية محلية تتيح المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، اعتماد نظام مالي جهوي مستقل يخضع للمراقبة الوطنية، تقوية أدوار المجتمع المدني والقطاع الخاص المحلي باعتبارهما رافعة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون والتكامل بين المركز والجهة لضمان وحدة التوجه وفعالية التدبير. كل هذا مع الحرص على تطوير آليات التشاور المحلي، إدماج الشباب والنساء في صنع القرار الجهوي، وتعزيز ثقافة المواطنة المشتركة.
بشكل عام، المغرب يمتلك كل المقومات الأساسية لإنجاح نموذجه للحكم الذاتي، انطلاقا من استقراره السياسي ورؤيته التنموية بالإضافة إلى الاعتراف الدولي والمكانة الإقليمية، وهي كلها مقومات من شأنها أن تجعل من الحكم الذاتي بالمغرب نقطة تحول نحو مزيد من اللامركزية الديمقراطية والوحدة الوطنية المتجددة.
في حالة ما إذا طبّق الحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية، ما مصير المناطق الأخرى من المغرب. هل سيبادر المشرع إلى نقل "التجربة" بتفعيل الجهوية المتقدمة في كل جهات ومدن المغرب؟
تنزيل نظام الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية، لن يكون معزولا عن باقي مناطق المملكة، بل يمكن اعتباره نقطة انطلاق لتفعيل أكثر نجاعة للجهوية المتقدمة، بما ينسجم والرؤية الملكية التي عبر عنها الملك محمد السادس في العديد من الخطب باعتبارها ليست خيارا إداريا بل مسارا نحو مغرب متوازن ومتماسك.
مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب ليست نظاما موازيا لبنية الدولة، بل هي تجسيد موسع ومتقدم لمبدإ الجهوية التي نص عليها دستور 2011، وبالتالي فإن نجاحه سيؤدي تدريجيا إلى تجويد نموذج اللامركزية عبر تمكين الجهات من صلاحيات أوسع في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتفعيل أمثل لمبدا التضامن بين الجهات تحقيقا للعدالة المجالية.
من جانب آخر، فإن التّجربة ستمنح المغرب نموذجا وطنيا فريدا يستفز دينامية الإصلاح على مستوى باقي الجهات بما يكرّس مغربا متوازنا موحدا في سيادته متنوعا في آليات تدبيره لشؤونه المحلية.
وكيف سيذوب العائدون في مسارب العملية السّياسية في حال ما إذا طبّق وجرى تنزيل الحكم الذاتي في المغرب؟
عودة أبناء الصحراء المحتجزين في مخيمات تندوف تشكّل إحدى أولى أولويات تنزيل الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية باعتبارها خطوة إنسانية ومدخلا سياسيا لمصالحة وطنية شاملة.
ولقد أكّد الملك محمّد السّادس، في خطابه التاريخي بتاريخ 31 أكتوبر 2025، أن "جميع المغاربة سواسية، لا فرق بين العائدين من مخيمات تندوف، وبين إخوانهم داخل أرض الوطن"، وهو تأكيد على أن الاندماج لن يكون انتقائيا، بل مؤسّسيا وقانونيا وإنسانيا.
نظام الحكم الذاتي يفتح المجال أمام العائدين للمشاركة الكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية داخل الأقاليم الجنوبية، من خلال الانخراط في المؤسسات الجهوية المنتخبة، وسيُضمن لهم التمتّع الكامل بحقوق المواطنة، بما في ذلك الترشيح، والتصويت، والمشاركة الفعلية في صياغة القرار المحلي، في إطار من المساواة والاندماج الوطني. وبهذا سيكونون فاعلين مباشرين في تدبير شؤونهم المحلية وفق آليات الديموقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص.
إنّ الرؤية المغربية للحكم الذاتي لا تقوم على منطق الغالب والمغلوب، بل على مبدأ "العودة في إطار الكرامة والمساواة"، بما يجعل من العائدين ركيزة للمصالحة والتنمية.
وما المخاوف أو المنزلقات و الدسائس التي ستباشرها الجزائر لعرقلة تنفيذ الحكم الذاتي في الأقاليم الصّحراوية؟
اعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2797 (2025) شكّل ضربة دبلوماسية موجعة للجزائر التي بنت، لعقود، خطابها الخارجي على دعم أطروحة “الانفصال”، وبتراجع الدعم الدولي لأطروحتها، باتت تعيش عزلة سياسية قد تدفعها إلى البحث عن أساليب جديدة لإبقاء الملف مفتوحا في أجندة التوتر الإقليمي، من خلال تكثيف مناوراتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية بهدف عرقلة تنزيل المشروع المغربي، وربما قد تلجأ إلى تأجيج الوضع الأمني في المنطقة بغرض التشكيك في قدرة المغرب على تنفيذ نموذجه للحكم الذاتي، او من خلال تشكيل كتل ضغط على مستوى الاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة للتشويش على مسار المفاوضات التي يرتكز عليها القرار الأممي الأخير.
لكن في المقابل، المغرب يمتلك آليات قوية لمواجهة هذه المناورات، من خلال الشرعية السياسية والقانونية أولا التي أقرها مجلس الأمن، ومن خلال مسلسل التنمية الميدانية بالأقاليم الجنوبية التي جعلت الواقع على الأرض خير دليل على صدقية مبادرته ومصداقيتها. طبعا دون أن ننسى الدعم الدولي المتزايد لهذه المبادرة من دول كبرى مؤثرة كأمريكا وفرنسا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي، مما يجعل أي محاولة جزائرية لعرقلة المسار محكومة بالفشل الدبلوماسي والعزلة السياسية.
ومع ذلك، فالجزائر ما تزال تملك فرصة حقيقية لإعادة تموضعها دبلوماسيا، عبر الانفتاح على منطق "لا غالب ولا مغلوب" الذي ترتكز عليه الرؤية المغربية، والمشاركة في المفاوضات المقبلة بروح واقعية ومسؤولة تراعي استقرار المنطقة ومصالح شعوبها. وقد أكد الملك محمّد السّادس، في خطابه السامي ليوم 31 أكتوبر 2025، على أن يد المغرب ما تزال ممدودة نحو الجزائر من أجل بناء مستقبل مشترك قائم على الثقة والتعاون وحسن الجوار.
وهي دعوة تعكس رؤية ملكية متبصّرة تؤمن بأن تسوية الخلافات لا تكون بالمواجهة، بل بالحوار والإرادة المشتركة لخدمة مصالح الشعوب المغاربية. من أجل لبناء فضاء مغاربي مستقر ومندمج، تكون فيه قضية الصحراء المغربية منصّّة للتعاون لا مصدرا للنّزاع.