في مساء باريسي تتناسل فيه الدهشة من الضوء كما تتناسل الحكايات من رحم الأسطورة، انبثق اسم عبد القادر مسكار في سماء الفن التشكيلي كنَيـزكٍ مغربي جاء من بعيد ليوقظ الذاكرة البصرية للعالم.
كانت القاعة الكبرى في بلاس لاكونكورد تتنفّس عطرًا من الأزرق، همسًا من الزيت، وحضورًا يفيض بالعالمية. وفي قلب هذا الفضاء، ارتفعت اللوحة العروس — الإنسانية — ككوكبٍ أزرقَ يسبح خارج المدار، يضيء دون أن يحترق، يسأل دون أن ينتظر جوابًا.
ليست لوحة مسكار مجرد عمل فني نال إعجاب الجمهور، بل هي كائن يتنفّس، كأنها جمعت في تكوينها كل تضاريس الوجدان الإنساني. شكل دائري يشبه الأرض، أو ربما الجرح الكوني الذي نحمله جميعًا منذ أول ولادة.
هناك، وسط دوّامة الأزرق والأخضر والرمادي، تظهر كلمة “Humanité” كأنها تنبثق من عمق الصراخ الأوّل، كأن اللوحة تقول لنا بلغةٍ لا تُترجم: نحن نولد من الفوضى، ونتنفّس المعنى في كل لونٍ يجرؤ على أن يكون ذاته.
تقترب من العمل فلا ترى إلا تشظّياتٍ لونية كأنها مقاطع من حلم. تبتعد قليلًا فترى عالمًا مكتمل الملامح: مدنًا غارقة في الضوء، وجوهًا معلّقة في الزمن، طيورًا بيضاء تبحث عن منفذٍ في الزحام، وأقنعةً تتقاطع فيها ملامح الإنسان بالأسطورة.
هذا التكوين الكثيف ليس زينة، بل حوار صامت بين الإنسان ومواده، بين اللون كذاكرة والمادة كجسد، بين ما يُقال وما يُخفيه الصمت.
عبد القادر مسكار لا يرسم لوحات، إنّه ينحت الأزرق في الذاكرة. الأزرق عنده ليس لونًا بل حالة وجود، موجة تتقاطع فيها السماء والبحر والعين. ومن الأزرق يولد كل شيء: الرمادي الذي يشبه المدن، والبرتقالي الذي يشبه البدايات، والأبيض الذي يشبه الغفران. وفي قلب هذه العاصفة اللونية، يختبئ الإنسان، وحيدًا كفكرة، شاسعًا ككون.
ربما لهذا أحبّ الجميع هذه اللوحة، لأنّها تسائلنا أكثر مما تجيبنا. من نحن في دوّامة هذا العالم؟ ما معنى الإنسانية حين تتحوّل إلى حروف تتوه في الملمس والظل؟ هل الإنسانية فكرة أم لون؟ جسد أم وهم بصري؟
أسئلة لا إجابة لها، لكنها تتراقص أمامنا كما تتراقص الذرّات في الضوء، وتدعونا إلى الإنصات لما وراء الجمال.
هنا، في عمق هذا السؤال، تتخذ لوحة مسكّار بُعدًا فلسفيًا متوهّجًا: الإنسانية كدوّامة نور. ليست الإنسانية عنده شعارًا أيديولوجيًا ولا حلمًا رومانسيًا، بل حالة من الإضاءة المستمرة، صراع بين الضوء والظل، بين المادي والروحي، بين الإنسان ككائن هش والإنسان كفكرة مطلقة.
في دوّامة النور هذه، تتلاشى الحدود بين العين واللوحة، بين الفنان والعالم، بين اللون والوجود ذاته. كل لون في هذه الدائرة الكبرى يبدو ككلمةٍ من لغة غير مكتوبة، لغة تشبه الصلاة أكثر مما تشبه الخطاب.
هكذا تتحوّل اللوحة إلى مرآة كونية، ترى فيها نفسك ولا تراها، كأنها تذكير بأنّ الإنسانية ليست غاية بل حركة، ليست جوابًا بل سؤالا دائم الدوران حول جوهر النور الذي فينا.
حين أعلنت جمعية أصدقاء صالون الخريف بباريس عن فوز مسكار بجائزة الصباغة لعام 2025، بدا وكأنّ الفن المغربي قد استعاد صوته في المحافل العالمية. لم يكن هذا التتويج حدثًا عاديًا، بل لحظة رمزية: المغرب يدخل قلب باريس من باب الإبداع، لا من باب السياحة أو السياسة.
هناك، في تلك القاعة المهيبة، صفّق الحضور طويلًا، وتوهّجت اللوحة كعروسٍ تُتوَّج بالألوان لا بالذهب.
ومع ذلك، في عمق الفرح ظلّ ظلٌّ حزين. حين صرّح الفنان بأسفٍ أنّه دعا بعض المسؤولين من مؤسّساتنا الثقافية ولم يحضر أحد، بدت الجملة كطعنةٍ من واقعٍ يرفض أن يرى أبناءه المبدعين. كم هو مؤلم أن تُرفع راية المغرب في سماء باريس بينما يظلّ في الوطن من لا يرى هذا النور.
كأنّ الثقافة عندنا تولد في الصمت، وتُكرَّم في الغياب، وتعيش يُتمًا فخريًا يشبه العزلة النبيلة.
ومع ذلك، لا شيء يطفئ ضوء الفن. فعبد القادر مسكار يمضي واثقًا، ريشته تمخر العتمة كما يمخر القارب ماء الليل.
يقول في تصريحه: تمثّل هذه الجائزة صلة حيّة بين جذوري المغربية ومساري الأوروبي، بين الذاكرة والمادة والنور.
هي كلمات بسيطة لكنها تختصر فلسفة فنية كاملة: الفن عنده ليس انتماءً جغرافيًا بل رحلة في جوهر الإنسان، واللوحة ليست سطحًا يُعلَّق على جدار، بل جدارًا يُعلَّق في روحنا.
هكذا، بين فاس وباريس، بين الرمل والضوء، بين الحرف العربي واللون الكوني، يمتد خيط من السحر المغربي يرسم ملامح عالمٍ جديد.
لوحة الإنسانية لا تقول شيئًا محدّدًا، لكنها تجعلنا نرى كل شيء. هي صرخة ضد القسوة، ضد اللامبالاة، ضد التيه البشري، وفي الوقت نفسه هي صلاة بصرية من أجل ما تبقّى فينا من رحمة.
في النهاية، ربما لا تعني الجائزة شيئًا أمام هذا الامتلاء الجمالي، لكن التاريخ سيذكر أنّ فنانًا مغربيًا، يحمل في أصابعه ذاكرة الأندلس وأفق الصحراء، أوقف باريس للحظة، وجعلها تُصغي إلى لونٍ جاء من الجنوب.
نعم، الفن لا يحتاج إلى تصفيق المؤسسات، لأنه يعلو وحده، كالنور في أوّل الخلق.
وها هو عبد القادر مسكار يثبت أن الصباغة يمكن أن تكون شكلًا من أشكال المقاومة، وأنّ الإنسانية، كما كتبها على لوحته، ليست شعارًا بل وعدًا قديمًا بالحياة، دوّامةً من نورٍ لا تنتهي.