محمد براو فوز المنتخب المغربي للشباب بكأس العالم في الشيلي عام 2025 لم يكن مجرد حدث رياضي عابر، بل هو نقطة تحول تاريخية تعكس قدرات المغرب المتنامية على الصعيد الدولي. هذا الإنجاز الرياضي الكبير يعزز سمعة المغرب كدولة قادرة على المنافسة والتميز، ويعطي دفعة قوية للثقة الوطنية ويزيد من التماسك الاجتماعي.
تأثير هذا النجاح يمتد إلى ما هو أبعد من الملاعب، حيث يلعب دورًا محفزًا في دفع مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية إلى مزيد من الانطلاق والتجديد. على المستوى الاقتصادي، يفتح الفوز آفاقًا جديدة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ويعزز صناعة الرياضة والسياحة الرياضية، كما يرفع من مكانة المغرب في السوق العالمية كوجهة رياضية وثقافية جاذبة.
في القطاع الاجتماعي، يشجع هذا الإنجاز الشباب على الانخراط في النشاطات الرياضية، ما يسهم في بناء جيل جديد يتمتع بالصحة والروح التنافسية ويعتز بهويته الوطنية. كما يعزز قيم الانضباط والعمل الجماعي، وهي قيم تنعكس إيجابًا على الإنتاجية في مختلف القطاعات.
على الصعيد الدولي، يسهم هذا الفوز في تعزيز العلاقات الدبلوماسية للمغرب من خلال الرياضة، التي أصبحت أداة فعالة للتقارب الثقافي والتعاون بين الدول. ويعزز أيضًا صورة المغرب كدولة فاعلة ومسؤولة تسعى إلى التنمية المستدامة وترسيخ مبادئ النزاهة والجودة في كل المجالات.
إن القيادة الملكية التي دعمت الرياضة بشكل مباشر وممنهج، جعلت من هذا الإنجاز حلقة متكاملة في سلسلة الإصلاحات التنموية الشاملة. فالمغزى الحقيقي لهذا النجاح هو أنه يعكس رؤية استراتيجية تنطلق من الرياضة كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويربط بين الإنجازات الرياضية والإصلاحات السياسية والاجتماعية التي ترمي إلى بناء مغرب قوي، عادل، ومتماسك.
الاستجابة للتحدي الاجتماعي وتعزيز ورش النزاهة
لا يمكن بناء دولة عادلة وفعالة دون إصلاح عميق وشامل لثلاثية مصيرية: الصحة، والتعليم، ومحاربة الفساد. هذه الملفات ليست مجرد أوراش قطاعية، بل هي مؤشرات حيوية لنجاعة السياسات العمومية وصدقية الدولة في نظر المواطنين.
لكن الجديد اليوم، والمُبشِّر، أن هذه الأولويات لم تعد هامشية أو مؤجلة. فـالخطاب الملكي يوم 10 أكتوبر 2025، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية، شكّل منعطفاً استراتيجياً أعاد الاعتبار لهذه القضايا، وجعلها في صلب المشروع التنموي الوطني، من خلال دعوته الصريحة إلى تعزيز الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحقيق العدالة المجالية، وتمكين المواطن من تعليم جيد وخدمات صحية لائقة.
ولم تتأخر الترجمة المؤسساتية لهذا التوجيه الملكي، حيث جاء المجلس الوزاري المنعقد يوم 19 أكتوبر ليُفصح عن التزام عملي وواضح من خلال:
كما تم التأكيد على تمكين الفئات الهشة، وتكريس العدالة المجالية، وإطلاق أوراش تنموية مدمجة تستهدف العالم القروي والمناطق الجبلية.
وفي ملف النزاهة ومحاربة الفساد، حمل لقاء رئيس الحكومة مع رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة (21 أكتوبر 2025) مؤشرات إيجابية واضحة: تفعيل اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد، إطلاق مشاريع استراتيجية مثل الأكاديمية الوطنية للنزاهة، المختبر الوطني، وحاضنات الابتكار الرقمي، مع التأكيد على ضرورة إشراك المجتمع المدني وتعزيز التنسيق بين الهيئات الرقابية. ويوم أمس 22 أكتوبر 2025 قال محمد عبد النباوي الرئيس المنتدب المجلس الأعلى للسلطة القضائية إن السياق الوطني والدولي يتسم بدينامية متسارعة تستوجب ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وشفافية التدبير، ومحاربة كافة أشكال الاختلالات التي قد تمس بالمال العام، باعتباره أحد المداخل الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة بمختلف أشكالها وتكريس العدالة الاجتماعية. وتم تنظيم يومين دراسيين بالاشتراك مع المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية في مؤشر قوي وعلى أعلى المستويات على بدء مسار جديد قوامه تفعيل جسور التنسيق بين الرقابة القضائية والادارية على المال العام من جهة والقضاء الزجري العدلي من جهة أخرى.
هذه التطورات، في ظرف زمني متقارب، تعكس وجود إرادة سياسية متجددة، والتزاماً مؤسساتياً واعداً بإعادة ترتيب أولويات الدولة بما يخدم المواطن أولاً وأخيراً.
الواقع الصحي... إقرار رسمي بضرورة التدارك
لطالما شكل قطاع الصحة مصدر قلق يومي للمواطن المغربي، بفعل الخصاص الهيكلي، وتفاوت العرض الصحي بين الجهات، والاختلالات في الخدمات والتجهيزات. لكن الواقع، كما تؤكده المؤشرات الحديثة، في طريقه للتغير.
فالمراكز الاستشفائية الجامعية الجديدة، وبرامج إعادة تأهيل المستشفيات، ورفع الميزانية المخصصة للقطاع، كلها مؤشرات بداية إصلاح حقيقي.
ومع ذلك، يبقى السؤال المركزي:
هل سيواكب هذا الاستثمار المالي الكبير نقلة نوعية في أساليب التدبير؟
هل ننتقل من منطق التسيير التقليدي إلى إدارة صحية عصرية تعتمد على:
في حواري الأخير مع إذاعة 2M، شددت على أن الفساد الصغير في قطاع الصحة، وهو فساد المعاملات اليومية، قد يُجهض أي إصلاح مالي أو مؤسساتي، ما لم تتم مواجهته بأنظمة يقظة رقمية، وآليات تبليغ فعالة، وحماية حقيقية للمبلغين.
إصلاح التعليم... من الكم إلى الكيف
الجهود المبذولة في مجال التعليم تستحق التنويه: من توسيع التعليم الأولي، إلى تعزيز دعم التمدرس، وإطلاق خريطة طريق جديدة لإصلاح المنظومة.
لكن التحدي الحقيقي هو الجودة. فالإصلاح لن يُقاس بعدد المقاعد أو المؤسسات، بل بما يلي:
كما لا يمكن الحديث عن تعليم منصف دون ضمان النزاهة داخل المنظومة: في التوظيف، في التقييم، في الإدارة. فكل مشروع إصلاحي لا يُرفَق بمنظومة حكامة واضحة ومفعلة، مآله التآكل البطيء.
الفساد... معركة مصيرية لا تحتمل التأجيل
اللقاء الأخير بين رئيس الحكومة ورئيس الهيئة الوطنية للنزاهة مضافا له تصريحات الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والرئيسة الأولى للمجلس الأعلى للحسابات، أعاد إحياء الأمل في تفعيل فعلي وموثوق للمنظومة الوطنية للنزاهة، والتي طال انتظارها.
ومع ما تم الإعلان عنه من مشاريع ومبادرات، فإن الأمل يظل معلقاً على مستوى التنزيل.
وقد بينتُ في تحليلات ودراسات سابقة أن معضلة الفساد في المغرب ليست قانونية ولا حتى سياسية فقط، بل هي ثقافية وإدارية ومجتمعية. فنجاح المعركة ضد الفساد يتطلب:
الملك، في خطاباته المتتالية، أشار إلى أن زمن الإفلات من العقاب قد ولى. واليوم، ينتظر المواطن أن تتحول هذه الإشارات إلى ممارسات ممنهجة ومعلنة.
من النزاهة إلى الجودة... نحو إدارة عمومية مواطِنة
إن أي إصلاح لا يقوم على ثنائية النزاهة والجودة، مصيره الإخفاق.
فالمرافق العمومية مطالبة، دستورياً ومجتمعياً، بأن تقدم خدمات بجودة عالية وبكلفة معقولة وفي زمن معقول.
ولن يتحقق ذلك بدون:
الإدارة المواطِنة ليست فقط تلك التي تطبق القانون، بل التي تُراعي حاجيات المواطن، وتتفاعل مع ملاحظاته، وتُحسّن خدماتها باستمرار.
تدخل ملكي ومؤشرات واعدة... لكن التنزيل هو الفيصل
ما عشناه في الأسابيع والأيام الأخيرة من قرارات ملكية ومبادرات مؤسسية وحكومية يعكس نقلة استراتيجية حقيقية نحو الاعتراف بأولوية الصحة، والتعليم، والنزاهة في السياسات العمومية.
نحن إذن أمام فرصة تاريخية لتصحيح المسار، شرط أن:
لقد قلتها في نهاية مداخلتي على أثير 2M قبل أيام، وقد يفيد تكرارها هنا:
"الفساد ليس قدراً. وتردي الخدمات ليس مصيراً. الإصلاح ممكن، بشرط أن نبدأ... وأن نستمر... وأن نتحمل المسؤولية جماعياً."
مغرب الجودة والنزاهة ليس حلماً بعيداً، بل ورشاً وطنياً بدأ يُفتح بجدية، وينتظر منا جميعاً أن نساهم في بنائه.
مقولة على الهامش
"الحكامة الجيدة ليست فقط في حسن اتخاذ القرار، بل في نزاهة من يتخذه، وجودة ما ينتج عنه."
محمد براو (بتصرف) من مقال علمي سابق تحت عنوان:" أية حكامة رشيدة لأي تدبير عمومي؟"
محمد براو ، الباحث والخبير الدولي في الحكامة ومكافحة الفساد