أنور الشرقاوي: الرخام والرصيف

أنور الشرقاوي: الرخام والرصيف الدكتور أنور الشرقاوي

أن تخطو على رصيف من رخام، ليس كأن تخطو على رصيف من إسمنت.

في صباحٍ من صباحات الرباط، أمام مبنى البرلمان، كانت جرافات البلدية تعزف سيمفونية الهدم والبناء على إسمنتٍ ما زال فتياً.

صوت المطارق يخترق السماء، وغبار أبيض يتسلّل إلى الرئتين المحمّلتين بكثير من الغبار.

اقتربتُ من كشك الجرائد المعتاد. هناك، وسط شارع محمد الخامس، يجلس "روبيو"، حارس الكلمات وعاشق العناوين، الرجل الذي يعرف رائحة السياسة من أول سطر.

لكن حديثنا هذا الصباح لم يكن عن العناوين، بل عن الأرصفة.

كانت الأرصفة جديدة، متينة، نظيفة، لا تحتاج لمن يأتي ويقلق راحتها.

ومع ذلك، كانوا يقتلعونها بلا رحمة ليستبدلوها برخامٍ لامع؛ الرخام، ذاك الحجر البارد النبيل، الذي يلمع في الشمس كأنه وعدٌ بالخلود.

شعرت بالغضب يصعد في صدري، وقلت لروبيو:

"ها هي أموال الناس تُنفق من جديد... نبدّل ما هو صالح، ونترك ما هو مهدّم!"

رفع "روبيو" رأسه ببطء، نظر إليّ بعينيه اللتين تشعّان ذكاءً وسخرية، ثم قال مبتسماً:

"زعما دكتور... واش حنا ما نستاهلوش شوية ديال الرخام؟ ولو يكون غير تحت رجلينا؟"

تجمّدتُ أمام كلماته.
كان في صوته شيء من الحكمة البسيطة التي لا تُدرّس في الجامعات.

الرخام، في نظره، لم يكن هدراً للمال، بل كان لمسة كرامة.

انتقاماً صغيراً من الغبار، وتذكرة بأن هذا الشعب يستحق أن يلامس الجمال، ولو بخطواته.

أحسست بالخجل.

خجلت لأنني نسيت أن الكرامة ليست بنداً في الميزانية، ولا رقماً في دفتر الحسابات، بل إحساسٌ يُولد من تماس القدم مع الأرض.

الرخام، الذي بُنيت به المعابد والمتاحف، أصبح هنا بلاطاً لأقدام الناس، شاهداً على حلمهم بأن يكونوا أرقى مما هم عليه.

أن تمشي على الرخام يعني أن تعيش وهماً جميلاً بالأبدية، حتى لو كان وهمك على رصيفٍ مزدحم بالغبار والبشر.

نظرتُ إلى العمّال، إلى الغبار، إلى المطارق.
ورأيتُ المشهد كله يتحوّل إلى استعارة:
بين صلابة الإسمنت وعذوبة الرخام، يعيش المغرب معلّقاً بين الواقع والحلم،
بين الواجب والطموح، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.

نعم، أن تخطو على رخام ليس كأن تخطو على إسمنت.

تحت الإسمنت، هناك الصرامة.
وتحت الرخام، هناك الوعد.

وفي وطنٍ متعبٍ من الوعود، يكفي أحياناً وعدٌ واحدٌ صغيرٌ كي نبقى واقفين.