إذا أخذنا الوقت الكافي لقراءة الخطاب الملكي خارج ضغط اللحظة والسياق المحتقن الذي أحاط به، سنكتشف أن هذا الخطاب في جوهره كان حول موضوع واحد هو التنمية، بكل تفاصيلها وتشعباتها، فكل فقراته، سواء المباشرة أو الضمنية، كانت تدور حول هذا العنوان المركزي، وإذا ما ربطنا الخطاب بسياق الأحداث التي عاشها المغرب خلال الأسبوعين الأخيرين، سنجد أن جميع المطالب الشعبية والاحتجاجات والانتقادات كانت تصب في خانة واحدة، التنمية وأعطابها، وعدالة توزيع ثمارها، من هنا يظهر أن الخطاب الملكي لم يكن معزولا عن الواقع، بل كان تفاعلا مباشرا وواضحا مع نبض الشارع المغربي.
الخطاب الملكي له إطاره المؤسساتي الواضح، فهو موجه أولا وقبل كل شيء إلى البرلمان، باعتباره المؤسسة التي تمثل الأمة، وفضاء النقاش والمحاسبة وصنع السياسات العمومية، ومن خلال توجيهه، رسم الملك معالم الطريق أمام النواب والمستشارين، محددا بدقة أولويات المرحلة القادمة في المشروع الوطني التنموي، وقد اختزل الخطاب جوهر الإشكال التنموي في ثلاث نقاط رئيسية:
الاستثمار العمومي: باعتباره العمود الفقري لأي تنمية حقيقية، شدد الملك بصرامة على أنه لا مكان بعد اليوم لاستثمار بلا مردودية أو مشاريع بلا أثر ملموس.
العدالة المجالية: لأن التنمية لا تكون وطنية إلا إذا شملت كل الجهات والمناطق، من المركز إلى الهوامش.
العدالة الاجتماعية: إذ أكد أن الهدف الأسمى من التنمية هو خدمة المواطن ورفع جودة حياته، وليس مجرد تحقيق أرقام اقتصادية.
ومن هذا المنطلق يظهر أن الملك مقتنع بالمسار التنموي كخيار استراتيجي وطني، ويرى فيه الطريق الحقيقي نحو التطور الاقتصادي والاجتماعي للمغرب، كما أنه لا يعارض التعبير الحر عن التطلعات الشعبية، بل اعتبره ضمنيا مؤشرا صحيا على حيوية المجتمع، شريطة أن يتم ذلك داخل الأطر الدستورية والمؤسساتية، فالملك لم يتهم الشباب ولم يخونهم ولم يستنكر تعبيرهم ، بل اختار توضيح المرتكزات التي جاءت كمطالب لهم، كالصحة و التعليم و التشغيل ،في الاطار التنموي الشامل .
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل محاولات بعض الأطراف الانتهازية التي سعت إلى الركوب على موجة الاحتجاجات، وتحويلها إلى ذريعة للهجوم على المؤسسات، ومحاولة وضع الملك في الزاوية الضيقة، من خلال ضرب كل ما تحقق في المغرب و انكار كل التقدم الذي حصل والدفع بطرح ان لا شيء تحقق او تطور ،وتحميل مسؤولية كل الاختلالات للملك ، ودفعه الى الانقلاب على الدستور ، فهؤلاء تجاهلوا عمدا أن النظام الدستوري المغربي واضح في توزيع المسؤوليات، وأن المحاسبة السياسية للحكومة مكانها الطبيعي هو البرلمان، وهو دور الاحزاب سواء في الاغلبية او المعارضة ، وكرة النار التي يريد البعض رميها للملك رجعت لهم وليتحمل الكل مسؤوليته ، فالملك لم ينتخب الحكومة ولا يسيرها و لا يتكلم باسمها، فهو مؤتمن على السير العادي للمؤسسات، والحكومة هي التي تتحمل المسؤولية التنفيذية الكاملة عن تدبير السياسات العمومية، وعن نتائجها المباشرة على المواطنين.
الخطاب الملكي اتبث ان الملكية اليوم لا تنشغل بالتجاذبات السياسية بين مختلف الأطراف، بل تركز على الرهان الحقيقي، رهان التنمية والنجاعة والمردودية، والمطلوب من كل الفاعلين، سياسيين ومؤسساتيين، أن يرتقوا إلى مستوى هذا الطموح، لأن المرحلة القادمة لا تحتمل مزيدا من العبث أو الهروب إلى الأمام، التنمية ليست شعارا يرفع، بل مسؤولية جماعية ومشروع وطني يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة.