جلال كندالي: الرسالة الملكية التي لا تحتمل التأويل أو التأجيل 

جلال كندالي: الرسالة الملكية التي لا تحتمل التأويل أو التأجيل  جلال كندالي
 
 "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"
صدق الله العظيم
كانت هذه الآية الكريمة آخر ما استشهد به جلالة الملك محمد السادس وهو يوجه خطابه أمام أعضاء مجلسي البرلمان.
كل كلمة في الخطاب  كالعادة كانت في مكانها، ولها دلالتها، لأنه خطاب مرجعي وتوجيهي بامتياز، يجمع بين العمق الديني، والصرامة الدستورية، والحكمة السياسية.
جلالة الملك، كعادته، ظل حريصا على احترام الدستور، ولم يسمح لنفسه يوما أن يتجاوزه أو يخرقه..
 نتذكر جيدا مرحلة البلوكاج الحكومي حين تم تعيين سعد الدين العثماني بدل عبد الإله بنكيران، حيث جاء في بلاغ الديوان الملكي أن القرار "اتخذ من ضمن كل الاختيارات التي يمنحها له نص وروح الدستور".
ذلك درس دستوري بليغ، يترجم كيف يفهم الملك السلطة لا كامتياز، وإنما كتكليف محكوم بالقانون والضمير الوطني.
بخلاف ذلك، نجد كثيرا من المسؤولين الذين لم يترددوا في استغلال المناصب لخدمة مصالحهم الشخصية، في ضرب صريح لمبدأ الدستور الذي يمنع تضارب المصالح.
ولعل الخطاب الملكي الأخير جاء محملا بروح نقد حاد وإن بدا في مظهره لينا، إذ وضع الجميع أمام مرآة الحقيقة، لا أحد فوق المحاسبة.
الآية القرآنية التي ختم بها الخطاب ليست صدفة لغوية ولا تزيينا بلاغيا، بل تحمل دلالة سياسية وأخلاقية عميقة، ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وهي محاسبة متعددة الأوجه، سياسية أمام الناخب، وقضائية وجنائية أمام العدالة.
هنا تبرز مسؤولية مؤسسات الحكامة التي دعاها الخطاب الضمني إلى التحرك دون تردد أو ضغط.
فالمجلس الأعلى للحسابات يملك في داخله سلطة الإحالة على القضاء.
ومجلس المنافسة مطالب بأن يستعيد جرأته التي أبداها في عهد إدريس الكراوي.
أما الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، فمسؤوليتها مضاعفة اليوم، خاصة بعد التقارير التي قدمها رئيسها السابق محمد بشير الراشدي، والتي كشفت أن كلفة الفساد في المغرب تصل إلى خمسين مليار درهم سنويا، أي ما بين 3,5و6 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
لقد كانت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد تهدف إلى تحسين موقع المغرب ،والكلام هنا لذات المسؤول، بثلاث وعشرين نقطة في مؤشر إدراك الفساد، لكن الحصيلة لم تتجاوز نقطة واحدة فقط.
ذلك يعني ببساطة أن أثر الإنجازات على حياة المواطنين ما يزال ضعيفا.
وفي هذا السياق، تعتبر اتفاقية التعاون بين الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمديرية العامة للأمن الوطني، والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، خطوة مؤسساتية حاسمة، لأنها تفتح الباب أمام تنسيق عملي بين أجهزة الدولة في تتبع ملفات الفساد، وتبادل المعطيات، ودعم مسار التحقيقات، بما يمكن من تسريع وتيرة المحاسبة وتكريس مبدأ ربط السلطة بالمسؤولية الفعلية.
الملك، باستشهاده بالآية الكريمة، لم يكن يوجه اللوم فحسب،  وإنما يضع بوصلة أخلاقية للدولة، العدل، المحاسبة، والقدوة.
ننتظر اليوم أن تفعل هذه التوجيهات على أرض الواقع، وأن تتحرك ملفات الفساد من جديد، لتنقية الأجواء قبل الاستحقاقات التشريعية المقبلة، ولإعطاء معنى حقيقي للعملية الانتخابية، وتحفيز الشباب ومنهم شباب جيل زد وغيرهم على الانخراط في بناء مؤسسات ديمقراطية محصنة من لوبيات الفساد التي تحولت، للأسف، إلى بنية موازية.
ويكفي أن نستحضر العدد الكبير من البرلمانيين المتابعين قضائيا، وغيرهم من المسؤولين المتورطين في ملفات الفساد، لندرك حجم التحدي.
وإن حدث ما ننتظره، فستكون الرسالة الملكية قد وجدت صداها الحقيقي،
سد الطريق أمام لوبيات الفساد حتى لا يعيدوا ترشيح أنفسهم، وإغلاق الباب في وجه من يتاجرون في التزكيات الانتخابية، لأنهم في الحقيقة لا يبيعون أوراقا... بل يبيعون مؤسسات الدولة نفسها ويفوتونها لهؤلاء المفسدين.
حينها فقط، سيستقيم المعنى الأخلاقي للسياسة، وتستعيد الدولة هيبتها ومصداقيتها أمام المواطن، وسيكون لآية "فمن يعمل مثقال ذرة خير ايره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" ترجمة فعلية لا تحتمل التأويل أوالتأجيل.