سفيان الداودي : الطيبي بنعمر.. رائد التربية الشعبية وباني الحلم الجماعي

سفيان الداودي : الطيبي بنعمر.. رائد التربية الشعبية وباني الحلم الجماعي سفيان الداودي  والمرحوم الطيبي بنعمر (يمينا)
في مثل هذا الشهر من أكتوبر، نستحضر جميعًا الذكرى الحادية عشرة لرحيل الطيبي بنعمر (15 دجنبر – 4 أكتوبر 2014)، ذلك الرجل الذي جمع بين التواضع والصلابة، بين الفكر والعمل، بين النضال والتربية.
 
1 ـ كان مقاوما في سبيل الوطن، ومربيا في سبيل الإنسان، ومديرا عاما للمكتب الوطني للنقل، ورئيسا للجنة الوطنية للسلامة الطرقية، لكنه قبل كل ذلك وبعده كان الرئيس المؤسس لحركة الطفولة الشعبية، وأحد أبرز من صاغوا ملامح المشروع التربوي الوطني غداة الاستقلال.
رحل سي الطيبي، لكن فكره ما زال حيًا، ومدرسته التربوية ما زالت تؤطر أجيالًا من المربين والمواطنين الأحرار.
لقد ترك رحيله فراغا وجدانيا وتنظيميًا يصعب تعويضه، فهو لم يكن مجرد قائد، بل ضمير جماعي يجمع القلوب والعقول، وجسر يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

2- من رحم البساطة خرج الحلم الكبير
ينحدر سي الطيبي من أحياء الرباط الشعبية، ومن أسرة متواضعة تركت بصمتها العميقة على تكوينه الإنساني.
كان خجولًا، كتوما، يبتعد عن الأضواء، لكن صمته كان أبلغ من الكلمات.
كان حضوره في النقاشات يُحدث توازنا بين الحماس والفكر، بين المبدئية والواقعية، وبين الحلم والعمل.
تلك البساطة الأصيلة كانت منبع رؤيته التربوية. فقد آمن بأن التربية فعل إنساني متبادل، حوار أفقي بين من يربي ومن يُربّى، بين من يشارك في بناء الوطن ومن يحلم به.
3- الوطنية والتربية الشعبية: وجهان لعملة واحدة
كان الطيبي بنعمر مناضلا وطنيا ورفيقا للمهدي بن بركة، مؤمنا بأن التحرر الحقيقي لا يكتمل إلا بتحرير الإنسان من الجهل والتبعية.
ومن هذا الوعي العميق، أسس في 5 يناير 1956 حركة الطفولة الشعبية، ليس كجمعية ترفيهية، بل كـ منظمة تربوية وطنية ديمقراطية تستمد جذورها من قيم المقاومة، وتستشرف المستقبل بمنهج حديث قوامه:
“الوعي بمساعدة الأطفال المحتاجين ، الفعل وذلك بالمساهمة في تطور الشعب والرفع من مستواه ، والاستقلالية وذلك عبر الانفتاح على مختلف النظريات التربوية  والتجارب الوطنية والدولية.”
وهي الغايات الثلاث التي ظلت ثابتة في أدبيات الحركة منذ التأسيس، دون أن يجرؤ أي مؤتمر على حذفها أو تعديلها، لقوة منطقها ومصداقيتها التاريخية.
4-  مدرسة في الفكر والممارسة التربوية الحديثة
كان سي الطيبي يرى أن القائد الحقيقي ليس من يدّعي امتلاك الحقيقة،بل من يقدر على العمل مع الآخرين للوصول إليها.
لقد آمن أن التربية ليست تلقينًا، بل تحرير للعقل والوجدان.
وأن استقلالية التنظيم شرط للنزاهة والشفافية.
كان الطفل في نظره مشروع إنسان حر ومسؤول، لا موضوعًا للترويض والانضباط.
هكذا أرسى دعائم مدرسة تربوية تقدمية قائمة على الحوار والانفتاح والتجديد، مدرسة جعلت من المخيم فضاءً للتربية على الديمقراطية والعيش المشترك، لا مجرد فسحة صيفية.
5- في عيون جيل لم يعاصره
حين نستمع إلى شهادات من عرفوه أو عملوا إلى جانبه، ندرك أننا أمام مربي استثنائي لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل عن بناء مشروع جماعي دائم.
لقد كانت التربية الشعبية بالنسبة إليه فعل تحرر ومواطنة، لا مجرد شعار تنظيمي.
وقد لخص الأستاذ فتح الله ولعلو خصاله قائلاً:
“رجل كله خصال رفيعة، من عائلة فقيرة أثرت على شخصيته. خجول، يبتعد عن الأضواء، وصمته بليغ.
انخراطه في الحركة الوطنية والمد الديمقراطي التقدمي، وتوظيف ذلك كله في خدمة الطفولة الشعبية على مدى ستة عقود، أبرز مؤهلاته كمبدع في التربية والتكوين.
كان منفتحًا على الحوار والعمل المشترك، ويستحق أن يُطلق اسمه على مؤسسات تربوية وتعليمية.
سي الطيبي بنعمر رجل لا يُنسى.”
6-  إرث فكري وتنظيمي خالد
ظل سي الطيبي متمسكا بأن قضية الطفولة لا تُدرج في أي حقيبة سياسية، وأن الدفاع عنها قضية وطنية تتجاوز الاصطفافات.
من هذا المنطلق، رفض أن تتحول الحركة إلى ذراع لأي جهة، مؤمنًا أن التربية الشعبية فضاء جامع لكل التيارات الصادقة.
وبعد رحيله، لم تنتخب الحركة رئيسًا جديدًا، واكتفت بتدبير شؤونها عبر الكاتب العام، في دلالة رمزية على أن الطيبي بنعمر ما يزال الرئيس المؤسس والروح الحية في وجدان كل مناضليها.
7-  تخليد الاسم والذاكرة
وفاءً لذكراه، خلدت الحركة اسمه بإطلاقه على مركز يعقوب المنصور بالرباط، الذي أصبح اليوم معلما تربويا يحمل بصمته، وفضاء يجسد قيمه في العمل الميداني والتكوين.
إن هذا التكريم ليس مجرد اعتراف رمزي، بل تجديد للعهد مع مدرسة بكاملها، مدرسة جمعت بين الوطنية والإنسانية، بين الفكر والممارسة، بين النضال والتربية.
8- الفراغ الوجداني والتنظيمي بعد الرحيل
رحيل سي الطيبي أحدث فراغًا وجدانيًا وتنظيميًا يصعب تعويضه.
لقد كان الذاكرة الجماعية للحركة، والبوصلة التي تضبط المسار، والمرآة التي تذكر الجميع أن التربية مشروع تحرري مستمر لا تحده فترات ولا مؤتمرات.
ومع ذلك، بقيت حركة الطفولة الشعبية وفية لنهجه، محافظة على استقلاليتها وجرأتها الفكرية، ومستمرة في بناء أجيال من المربين والمنشطين الملتزمين بقيم الحرية والعدالة والإبداع رغم كل الإكراهات.
9- عهد على الوفاء
 
في هذه الذكرى، نجدد العهد على مواصلة الطريق.
لقد علمنا سي الطيبي أن العمل التربوي ليس وظيفة، بل موقف من الوجود، وأن التربية ليست تلقينًا بل تحريرًا للعقل والروح.
ستظل كلماته نبراسا لنا:
 
“نحن حركة ودينامو هذا المجتمع من الناحية التربوية، ولسنا نادياً مغلقاً ولا ثكنة لتخريج نمط واحد من المؤطرين والمنشطين، ولسنا على استعداد لتكوين شباب تابع لأي جهة كانت، بل نحن قطار حياة ماهيته الحركة والانفتاح.”
نعم، رحم الله سي الطيبي بنعمر، الرائد المؤسس الذي علمنا أن الوطنية الحقة تُبنى بتربية الأجيال على الحرية والمسؤولية، وأن التربية الشعبية هي الطريق الأسمى لبناء مغرب يُضيئه الإنسان.