أفضت التطورات والتحولات التي عرفتها النظريات الدارسة لفلسفة الحكم والسلطة، إلى شيوع فكرة أساسية مضمونها أن الديموقراطية التمثيلية تعيش أزمة حقيقية، حيث تتجلى هذه الأزمة في العديد من المظاهر التي تؤثر بالسلب على سير وفعالية المؤسسات المنتخبة، كنتيجة طبيعية لضعف المشاركة السياسية، بكل ما يعنيه هذا الضعف من تراجع ثقة المواطنين في هذه المؤسسات.
لقد ساهمت التحولات التكنولوجية المتسارعة، التي عرفها العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بشكل كبير في شيوع هذه الفكرة أو هذه القناعة، من خلال ما أتاحته من ليونة في انتشار المعلومات، وبالتالي من فرص ومن إمكانيات كبيرة في توجيه الرأي العام بالدول نحو مصالح من يتحكم في الأدوات والوسائل التي وفرتها هذه التحولات، والذي من الممكن أن يكون فاعلا من خارج المجتمع السياسي لهذه الدول، بالرغم من أنه المجال الشرعي لممارسة السلطة السياسية، والفضاء الطبيعي لتشكيل الرأي العام.
فالأكيد، أن عملية تشكيل الرأي العام وتوجيهه لم تعد اليوم نتاجا طبيعيا لمجموع التفاعلات التي تعرفها المجتمعات السياسية من داخل الدول، بمعنى أن بروز رأي عام معين لا يعني بالضرورة أنه انعكاس لأداء وتفاعل المؤسسات التي تشكل هذه المجتمعات، ذلك أنه من الممكن اليوم أن يتشكل الرأي العام داخل دولة ما، نتيجة لتدخل عناصر من خارج مجتمعها السياسي، حيث من الوارد جدا أن يكون توجه هذا الرأي العام ضدا على مصالح وطنه وخدمة لمصالح من ساهم في تشكيله.
من جهة ثانية، فإن صناعة القرار السياسي في عالم اليوم لم تعد رهينة لمستويات الهيمنة على وسائل وأدوات الدولة، بل أصبحت مرتبطة وبشكل كبير جدا بالقدرة على التحكم في طريقة تفكير الناس، وتوجيه مواقفهم ورغباتهم وانتظاراتهم، بمعنى القدرة على توجيه وسائل وأدوات إنتاج المعنى والوعي، من ثقافة، وتعليم، وإعلام، ومنصات التواصل وغيرها، في هذا الإطار يبرز دور الرأس المال، باعتباره الأكثر قدرة على التحكم في هذه الأدوات، حيث يوجه الرأي العام ، من خلال استثمار أعطاب الديموقراطية التمثيلية لرفض كل ما يرتبط بعملية التمثيل، أي برفض كل ما يتعلق بالسياسة.
إن هذا المقال، ليس محاولة لإبداء رأي شخصي بخصوص أسباب ومظاهر وتداعيات أزمة الديموقراطية التمثيلية، كما أنه ليس مساهمة في نقاش طرق تشكيل الرأي العام داخل الدول، بقدر ما هو محاولة متواضعة لفتح قوس من النقاش بخصوص ما الحل لتدبير هذه الأزمة، أو على الأقل نقاش صحة التصورات والافتراضات التي تقول بضرورة تجاوز آليات الديموقراطية التمثيلية، لصالح آليات جديدة تدار بها الدول.
الأكيد بأن القول بفشل الديموقراطية التمثيلية، ليس قولا مرتفعا عن الواقع، بل على العكس هو قول وموقف واقعي، يعكس مستوى التأزم الذي تعرفه الأنظمة الديموقراطية الحديثة، لكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا لعدم إدراجه في خانة المسار التطوري الذي عرفته الديموقراطية باعتبارها تصورا عاما، منذ انطلاقها من المجتمع الغربي في نهايات القرن الثامن عشر، كصورة من صور أشكال الحكم التي تقوم على تكريس التداول السلمي على السلطة، والأهم على ضمان مشاركة المواطنين في ممارسة السلطة.
على هذا الأساس، فقد كان من المفروض أن يشكل هذا الموقف مدخلا لإدارة هذه الأزمة، ولتصويب الاختلالات التي باتت تعيق فعالية الأنظمة الديموقراطية، سيما ما يتعلق منها بقدرة هذه الأنظمة على تعبئة الجماهير وتوجيههم، هذه القدرة التي تراجعت بشكل كبير بتراجع حضور النخبة السياسية لصالح النخبة التقنية والاقتصادية، حيث أصبحت هذه النخبة ذات قوة سياسية ملحوظة في عالم اليوم. لا أن يكون مبررا لابتكار أشكال جديدة للحكم ولتدبير السلطة، بذريعة تجاوز أعطاب الديموقراطية التمثيلية، واستيعاب التحولات الجديدة التي طرأت على العديد من المفاهيم التي توجهها وتستتبعها كمفهوم المشاركة السياسية، خصوصا إذا كانت عملية الابتكار هذه تنطلق من فكرة أن لا جدوى من الديموقراطية التمثيلية في عالم اليوم.
ذلك أن هذه الفكرة التي لا تعني غير قتل السياسة، كنتيجة طبيعية لانتفاء الحاجة إلى الديموقراطية التمثيلية، ولكن لصالح من؟ أو بالأحرى من سيعوض قتل السياسة، التي ستفضي بالضرورة إلى تغييب المجتمعات السياسية داخل الدول؟ أو على الأقل إلى إعادة تشكيلها تشكيلا شكليا، الأكيد لصالح نخبة غير النخبة السياسية، نخبة تقنية لن تخدم غير مصالح من بات اليوم يتحكم في صناعة القرار السياسي بالعالم، من خلال صناعة الرأي العام، بمعنى نخبة لخدمة الرأسمال ومصالح الشركات العابرة للقارات، بكل ما يعنيه هذا الأمر من تهديد مباشر لاستمرار مفهوم الدولة الوطنية، خاصة بالنسبة للدول النامية، ذلك أن الدول المتقدمة لها ما يكفي من القدرات لحماية سيادتها ومصالح شعوبها.
إن مسؤولية الدفاع عن استمرار الدولة الوطنية في الدول النامية، ملقاة بدرجة متساوية على جميع مكونات المجتمعات السياسية فيها، وهو ما لا يمكن إدراكه إلا بتكريس شرط الاستقرار السياسي والاجتماعي، باعتباره ظرفا عاما وحالة عامة، هذه الحالة التي لا يمكن تصور إدراكها إلا في ظل نظام ديموقراطي قادر على ضمان تصريف جميع انتظارات تشكيلات المجتمع، على اعتبار أن الديموقراطية هي الآلية الوحيدة القادرة على استيعاب وتصريف وبلورة هذه الانتظارات.