تعود الجزائر مجددًا إلى النقطة التي ظنّ كثيرون أن الشعب تجاوزها بعد حراك 22 فيفري، حين خرج الملايين مطالبين بإنهاء الحكم مدى الحياة وفتح صفحة جديدة من التاريخ الوطني عنوانها التداول السلمي على السلطة. غير أن الأحداث الأخيرة تؤكد أن النظام لم يتغيّر في جوهره، وأنه ما يزال يُعيد إنتاج نفسه عبر نفس الأدوات القديمة، ولو بعبارات جديدة أكثر نعومة.
ففي تصريح لافت، أعلن الرئيس عبد المجيد تبون عن “نية في مراجعة تقنية للدستور الرئاسي”، وهو تصريح يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، لكن خلفه مشروع سياسي ضخم وخطير قوامه إعادة فتح العهدات الرئاسية وتمديد بقاء الرئيس في الحكم لما بعد 2029.
“مراجعة تقنية” أم “مراجعة سياسية”؟
في الخطاب الرسمي، تتحدث السلطة عن “مراجعة تقنية” تهدف إلى “تحسين أداء المؤسسات”، و“تصحيح بعض النقائص في الدستور الحالي”، وهي العبارات ذاتها التي استُخدمت في المراحل السابقة كلما أراد النظام التلاعب بالقوانين لتمديد بقائه.
لكن وفق مصادر سياسية مطلعة، اللجنة الوطنية التي يجري التحضير لتنصيبها ستكون مهمتها الحقيقية إعادة فتح العهدات الرئاسية، وإدراج تعديلات تسمح للرئيس الحالي بالترشح مجددًا دون قيود دستورية.
بهذا، تتحول المراجعة “التقنية” إلى عملية سياسية خالصة تُمهّد لعودة منطق “الرئيس الأبدي”، وتغلق الباب مجددًا أمام أي تداول فعلي على السلطة.
الدستور في الجزائر... أداة بقاء لا وثيقة سيادة
منذ الاستقلال، لم يُعامل الدستور في الجزائر باعتباره “عقدًا وطنيًا” بين الحاكم والمحكوم، بل كـ وثيقة ظرفية قابلة للتعديل حسب ميزاج السلطة.
فكل رئيس جديد يفتح ورشة “إصلاح دستوري” لتثبيت موقعه لا لإصلاح النظام.
ومن دستور 1996 إلى دستور 2020، تكرّرت نفس الصيغة: تعديلات شكلية تُقدَّم على أنها إصلاحات، بينما الهدف الحقيقي هو تحصين النظام من أي انتقال سياسي حقيقي.
اليوم، يبدو أن النظام يسير في الاتجاه ذاته: إعادة تشكيل النص الدستوري لإعادة فتح الباب أمام تبون لعهدة ثالثة وربما رابعة، تحت شعار “الاستمرارية والاستقرار”.
صفقة بين السياسة والبيروقراطية
منذ بداية العهدة الحالية، لم يخفّف النظام من قبضته، بل وسّع نفوذه داخل المؤسسات الحساسة — من القضاء إلى الإعلام إلى الإدارة المحلية — في محاولة للسيطرة الكاملة على المشهد.
وها هو اليوم يسعى لشرعنة هذا الواقع بالقانون، عبر تعديل دستوري يمدّد الرئاسة ويغلق الباب أمام أي منافسة حقيقية في 2029.
الأدهى أن هذا المشروع يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي متدهور، مع ارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة الدينار، واتساع البطالة بين الشباب، ما يجعل الحديث عن “الإصلاح الدستوري” في غير محله تمامًا.
فالشعب الذي يرزح تحت أزمة المعيشة لا يهمه شكل النظام الدستوري بقدر ما يهمه أن يرى عدالة، وفرصًا، وكرامة.
العودة إلى منطق “الرئيس مدى الحياة”
من الناحية السياسية، إعادة فتح العهدات تعني ببساطة العودة إلى نموذج بوتفليقة، حيث يُختزل الوطن في شخص، وتُعلّق الشرعية على إرادة فرد واحد.
وهذه الخطوة لا تعبّر فقط عن رغبة في البقاء، بل عن فشل ذريع في بناء مؤسسات قوية قادرة على الاستمرار بعد أي رئيس.
كل الأنظمة التي رفضت التداول على السلطة انتهت إلى السقوط أو الفوضى، بينما الأنظمة التي سمحت بالتغيير الدوري عبر الصندوق ضمنت لنفسها الاستقرار الحقيقي.
لكن يبدو أن السلطة في الجزائر لم تستخلص الدرس بعد.
لجنة “الدراسة”... واجهة لتكريس الواقع
اللجنة الوطنية التي يُنتظر تنصيبها قريبًا ستضم — حسب ما يُسرّب — شخصيات “أكاديمية وقانونية” موالية، لتُمنح صفة “الخبراء”، لكنها في الواقع لن تكون سوى لجنة سياسية بغطاء قانوني.
القرارات الكبرى لن تُتخذ فيها، بل في الدائرة الضيقة التي تحيط بالرئيس، كما جرت العادة.
أما النقاش العام فسيبقى شكليًا، يقتصر على وسائل إعلام تابعة تنقل نفس الخطاب: “إصلاحات تاريخية في إطار تعزيز دولة القانون!”.
من حراك الأمل إلى واقع الانغلاق
قبل ست سنوات فقط، خرج الجزائريون بملايينهم ليقولوا “لا للعهدة الخامسة”، رافعين شعار “يتنحاو ڨاع”.
اليوم، يجد نفس الشعب نفسه أمام نسخة جديدة من نفس المأساة: محاولة تمديد السلطة عبر الدستور بدل صناديق الاقتراع.
إنها المفارقة الكبرى بين شعب يطالب بالتغيير ونظام يصرّ على البقاء مهما كلّف الثمن.
كلمة أخيرة
إن إعادة فتح العهدات ليست مسألة تقنية ولا حتى سياسية فقط، بل هي اعتداء مباشر على إرادة الأمة.
هي إعلان واضح أن النظام لم يتعلّم شيئًا من التاريخ، وأنه ما يزال يعتبر الدولة ملكية خاصة يمكن تعديل قوانينها متى شاء، وكيفما شاء.
الشعب الذي خرج في 2019 مطالبًا بدولة القانون لا بد أن يعي اليوم أن المعركة لم تنتهِ.
فإعادة فتح العهدات تعني غلق باب المستقبل، وتعني تكريس منطق “البقاء في الحكم ولو على أنقاض الدولة”.
الجزائر لا تحتاج إلى عهدة جديدة، بل إلى عهد جديد — عهد المواطنة، الشفافية، والعدالة الحقيقية.
كريم مولاي، خبير أمني جزائري