عبد اللطيف البغيل: الرسالة الملكية إلى العلماء بين الاستمرارية على نهج الأسلاف والوفاء لصاحب الرسالة الأعظم وجد الأشراف (1)

عبد اللطيف البغيل: الرسالة الملكية إلى العلماء بين الاستمرارية على نهج الأسلاف والوفاء لصاحب الرسالة الأعظم وجد الأشراف (1)
في صيف سنة 2000 ميلادية قدر لي أن أحضر في موسم المولى عبد السلام بن مشيش بجبل العلم ببني عروس، الذي حضره وفد رسمي رفيع، يتكون من شخصيات تنتمي إلى الديوان الملكي، وشخصيات حكومية وغيرهم كثير، وبعد أن تليت آيات بينات من الذكر الحكيم وقراءة الصلاة المشيشية بالضريح، تقدم أحد الأئمة للدعاء لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله وأيده، وكان ذلك الإمام شيخا جبليا وقورا منور الوجه ويدعو بخشوع وتضرع، ومما لا زلت أذكره مما دعا به ذلك الشيخ الوقور، قوله: ( اللهم أظهر أمر مولانا أمير المؤمنين واعل شأنه على جميع الملوك، وحقق على يديه ما لم يتحقق لملك قبله.) كان هذا مما لا زلت اتذكره أو قريب منه، مما دعا به ذلك الشيخ من دعاء طويل مؤثر وجميل، وإني كلما تحقق على يد مولانا أمير المؤمنين من فتح أو نصر أو إنجاز ديني أو اقتصادي أو عمراني أو دبلوماسي أو اجتماعي أو غير ذلك من المجالات إلا وتذكرت ذلك الشيخ، وغلب علي الظن، بأن الله تعالى قد استجاب لدعوته ولغيره ممن دعا بكل ما فيه خير هذه البلاد وما فيها من العباد، حيث تحقق على يد هذا الملك الهمام ما لم يتحقق لملك قبله وسيتحقق على يديه المزيد إن شاء الله تعالى، لأنه يمتلك همة عالية ورؤية ثاقبة وإرادة لا يعتريها فتور، همه الأكبر خدمة البلاد والدفع بها إلى أن تكون دائما على استعداد، والدفاع عنها في كل محفل وناد، ولذلك فهو دائم المبادرات الرامية إلى تحقيق المصالح وجني الثمرات في أي مجال كانت، من خلال الإشراف المباشر على العمل، أو بإصدار التعليمات والأوامر وبعث الرسائل الخاصة والعامة لمن يتحمل المسؤولية من خدمه وأعوانه، ومن ذلك الرسالة التي بعث بها إلى علماء الأمة يوم 15 شتنبر 2025 الذي سيبقى يوما مشهودا في تاريخ الأمة المغربية خصوصا والأمة الإسلامية عموما، بالطلعة البهية لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس أيده الله ونصره، معلنا رسالته المباركة التي تلاها عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أمام العلماء بالمجلس العلمي الأعلى، يستنهضهم ويضعهم أمام مسؤولياتهم تجاه دينهم وتجاه نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحثهم على القيام بواجب المسؤولية الملقاة على عاتقهم في خدمة الدين والدفاع عنه، باستحضار مناسبة عظيمة، وهي مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد رسول الإسلام ونور الهدى الساطع على العالم، وهي مناسبة يقدر مولانا جلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين أهميتها، باعتبارها فرصة سانحة لوضع العلماء أمام مسؤولياتهم في تجديد الدين وربطه بواقع الأمة، والرجوع به إلى منهج الوسطية والاعتدال، باعتبارها خاصية إسلامية استوعبتها الشريعة الإسلامية وطبقها مولانا رسول الله صل الله عليه وسلم في سيرته مع أصحابه ومع معاصريه، وقد كانت هذه الخاصية هي إحدى الأمور التي أثرت في كثيرا ممن اقتنع بهذا الدين وجهر باعتناقه، واتخذه ملاذا روحيا تصفو به حياته وتطيب بها، والعلماء عليهم أن يكونوا في مستوى هذه الإشارة المولوية ويعملوا على إبراز الصفات الإنسانية والجمالية والخلقية في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويعملوا وفق منهج معاصر على ربط المسلمين بنبيهم وبسيرته، وعلى العلماء كذلك واسترشادا بهذه الرسالة المولوية أن يجعلوا هذه المناسبة والذكرى المخلدة لمرور خمسة عشر قرنا على ميلاد الرسول الكريم، محطة لإطلاق خطاب جديد في تبليغ الدين وربطه بالمجتمع مع التركيز على ما به صلاح الدنيا والآخرة، وهذا يتطلب أيضا من العلماء أن يندمجوا أكثر في الحياة الاجتماعية، ويكونوا أقرب الناس إلى المخاطبين، وأن يستمعوا إليهم ويحلموا عليهم ويصبروا على جهالاتهم وأن يظهروا في كل وقت وحين أن الحياة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، تقوم على الأمل الفسيح، وعدم القنوط من رحمة الله قال تعالى: "قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا." (سورة الزمر 53 ).
فلا يأس مع الحياة في الإسلام، هكذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، رباهم بقربه منهم، وبمتابعة أحوالهم وتوجيههم وبتفقدهم وتفقد شؤونهم، حتى بلغ بهم إلى أعلى درجات التزكية.
فهذه الرسالة المولوية الشريفة تضع العلماء أمام سؤولياتهم الجسيمة في الاضطلاع بدور التبليغ للضروري من أحكام الدين، لكل أفراد المجتمع في المملكة المغربية الشريفة، وفق الثوابت التي تقوم عليها، ولذلك فإننا نعتبر هذه الرسالة الملكية المباركة وثيقة تاريخية، لأنها جاءت على رأس المائة الخامس عشرة من ميلاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من أجل الوقوف على ما تحقق من منجزات في مجال الشأن الديني بالمملكة الشريفة، وتتويجا للجهود التي أنجزت خلال ربع قرن من عهد مولانا أمير المؤمنين نصره الله وأيده، وتربعه على عرش أسلافه المنعمين، والعمل النوعي والجاد في تطوير الشأن الديني وتحديث بنياته ومؤسساته ونظمه، كما أن هذه الرسالة المباركة ستفتح آفاقا كبرى للعمل في المستقبل على ضوء المبادىء التي حددتها والخصوصية التي بينتها.
ودلالة هذه الرسالة المباركة واضحة، فهي:
1- تجسيد لمنهج الاستمرارية على خطى الأسلاف من ملوك الدولة العلوية الشريفة القائمة على حراسة الدين والتعلق بحبله المتين،
2- كما أن هذه الرسالة تؤكد قيام المملكة المغربية الشريفة بكل الجهود التي تدعم هويتها كدولة إسلامية عريقة تقوم على ثوابت الدين وتعظم حرماته وتحترم مقدساته،
3- كما أن هذه الرسالة الكريمة تدل دلالة واضحة على دور مولانا الإمام دام له النصر والتمكين في ترشيد عمل العلماء وتوجيههم والإشراف على عملهم الدعوي والإرشادي والتبليغي، وتحديد الأولويات التي يجب التركيز على الاعتناء بها تبعا لحاجة المجتمع، وعلاجا لما قد يرى من أمراض أو انحرافات أو اختلالات تمس بجوهر الدين أو بأصل من أصوله، أو التباس يعتري بعض مفاهيمه.
كل هذا يمثل مبدأ الاستمرارية على نهج الأسلاف الذين سنوا سنة حميدة درج عليها ملوك الدولة العلوية الشريفة ،حيث عرفوا بتوجيه العلماء ولفت انتباههم إلى قضايا الأمة في كل عهد وعصر، إلى أن استقر الأمر بيد مولانا الإمام أمير المؤمنين محمد السادس الذي حفظ الأمانة ورعى العهود، بانباع سنة الأسلاف في وفاء تام لهدي جده المصطفى وجد الشرفاء جميعا عليه أفضل الصلاة والسلام، وزيادة على ذلك فقد حقق الإضافة النوعية التي لم تحدث في البلاد قبله، فقرت بها عينه، وأرضى بها ربه، وحفظ عهد جده صلى الله عليه وسلم، وفي وسعه المزيد بحول الله تعالى.
 
د/ عبد اللطيف البغيل 
أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة