تتردد عبارة "الإرث الثقيل" كثيراً على ألسنة بعض الوزراء والمسؤولين عند الحديث عن التحديات التي تواجههم في مناصبهم الجديدة، وكأن هذه العبارة صارت ملاذاً ومبرراً لكل إخفاق أو تأخير في الإنجاز. غير أن هذا التبرير المستهلك لم يعد مقبولاً لدى الرأي العام، خاصة في مرحلة تتعاظم فيها التحديات وتتطلب قرارات حاسمة وشجاعة حقيقية في العمل، لا مجرد خطابات رنانة.
الإرث الثقيل، بمعناه الموضوعي،يشير إلى تراكم المشكلات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية عبر سنوات طويلة من سوء الإدارة أو الفساد أو غياب التخطيط السليم. لا شك أن أي مسؤول جديد سيواجه صعوبات حقيقية في ظل هذه التركة، لكن تحويل هذه الحقيقة إلى شماعة لتعليق الإخفاقات عليها يُعد تهرباً من المسؤولية أكثر منه تشخيصاً للواقع.
فعندما يقبل الوزير أو المسؤول تولي منصبه، فهو يدرك مسبقاً حجم التحديات التي تنتظره. ومن هنا، فإن الاستمرار في التذرع بالإرث الثقيل يعكس افتقاراً إلى الشجاعة وضعفاً في الإرادة لإحداث التغيير المطلوب. إن المسؤول الحقيقي هو من يواجه الواقع بشجاعة، ولا يكتفي بترديد الأعذار، بل يبحث عن حلول عملية ويقود عملية الإصلاح.
فالمرحلة الحالية تتطلب شجاعة في التنفيذ لا في الخطاب. حيث المواطن لم يعد في حاجة إلى سماع المزيد من التصريحات والوعود، بل ينتظر أفعالاً ملموسة وخطوات عملية نحو الإصلاح. الشجاعة هنا تعني الاعتراف بالمشكلات، لكن الأهم هو المبادرة إلى معالجتها بقرارات جريئة، حتى وإن كانت غير شعبية أو محفوفة بالمخاطر.
التاريخ لا يذكر الخطابات الجميلة،بل يخلد من أحدثوا فرقاً وواجهوا المشكلات بشجاعة. وعليه، فإن المسؤول الذي يكتفي بإلقاء اللوم على الإرث الثقيل يفقد ثقة المجتمع، بينما يكسب احترامه من يضع خطة واضحة وينفذها بجرأة وشفافية.
أولى الخطوات الجدية في مكافحة الفساد، كما هو مطروح، هي إعادة طرح مشروع قانون الإثراء غير المشروع والتصويت عليه بالإجماع. هذا القانون يشكل حجر الزاوية في بناء منظومة النزاهة والشفافية، إذ يفرض رقابة فعالة على مصادر ثروات المسؤولين ويمنع استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية.
يجعل كل حديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد مجرد شعارات خاوية من المعنى. فالقوانين ليست نصوصاً جامدة، بل هي أدوات فاعلة لتحقيق التغيير متى ما توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لتطبيقها. ومن هنا، فإن تمرير قانون الإثراء غير المشروع بالإجماع يعد اختباراً حقيقياً لجدية الدولة في مكافحة الفساد.
لقد سئم الناس من تكرار العبارات الرنانة والوعود البراقة التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ. المطلوب اليوم هو الانتقال من مرحلة الشعارات إلى مرحلة الأفعال الملموسة، بدءاً من التشريعات الجادة ومروراً بتفعيل الرقابة والمحاسبة، وصولاً إلى بناء منظومة إدارية قوية قادرة على مواجهة التحديات.
في النهاية، لا يمكن لأي مسؤول أن ينجح في مهمته إذا ظل يختبئ وراء شماعة "الإرث الثقيل". الشجاعة الحقيقية تظهر في القدرة على مواجهة الواقع، وتحمل المسؤولية الكاملة، والعمل الجاد على إيجاد الحلول. أول خطوة في هذا المسار هي اتخاذ قرارات حقيقية، مثل إقرار قانون الإثراء غير المشروع، فبدون ذلك ستظل الشعارات مجرد أصداء لا أثر لها في الواقع. المجتمع ينتظر من المسؤولين أفعالاً، لا أعذاراً.