وحيد مبارك: المستشفى العمومي أصبح عبارة عن جدران بدون روح

وحيد مبارك: المستشفى العمومي أصبح عبارة عن جدران بدون روح وحيد مبارك
ما‭ ‬يقع‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬أمام‭ ‬وداخل‭ ‬المستشفيات‭ ‬العمومية‭ ‬وفي‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬احتجاجات‭ ‬للمطالبة‭ ‬بتجويد‭ ‬الخدمات‭ ‬الصحية‭ ‬وبتنزيل‭ ‬فعلي‭ ‬للحق‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬الصحة‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يضمن‭ ‬ولوجا‭ ‬عادلا‭ ‬ومتكافئا‭ ‬لكل‭ ‬المغاربة‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬المساواة،‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‮ ‬‭ ‬نعتبره‭ ‬مفاجئا‭ ‬وأن‭ ‬نستغرب‭ ‬له‭ ‬لأن‭ ‬أسبابه‭ ‬واضحة‭ ‬وجليّة،‭ ‬وأضحى‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭ ‬يعرفها،‭ ‬لأن‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬العمومي‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬ليس‭ ‬بالسهل‭ ‬والهيّن‭ ‬إذ‭ ‬تعترضه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬والإكرهات‭ ‬وتتخلّل‭ ‬أشواطه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعاناة،‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬طول‭ ‬آجال‭ ‬المواعيد،‭ ‬وحتى‭ ‬حين‭ ‬يضع‭ ‬المريض‭ ‬قدميه‭ ‬في‭ ‬مسلك‭ ‬العلاجات‭ ‬سيجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬التيه‭ ‬والتخبط،‭ ‬بسبب‭ ‬الفقر‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه‭ ‬الصحة‭ ‬العمومية،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية،‭ ‬وخاصة‭ ‬الأطباء‭ ‬المتخصصين،‭ ‬وإنما‭ ‬كذلك‭ ‬بسبب‭ ‬إشهار‭ ‬ورقة‭ ‬الأعطاب‭ ‬المتكررة‭ ‬التي‭ ‬تطال‭ ‬التجهيزات‭ ‬البيوطبية‭ ‬الضرورية،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬وجودها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استكمال‭ ‬الفحوصات‭ ‬بالأشعة‭ ‬وغيرها،‭ ‬كأجهزة‭ ‬الفحص‭ ‬بالصدى‭ ‬أو‭ ‬الرنين‭ ‬المغناطيسي‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬ونفس‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لتحاليل‭ ‬الدم‭ ‬التي‭ ‬تنعدم‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬المفاعلات‭ ‬المخبرية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأسباب،‭ ‬دون‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬المريض‭ ‬يكون‭ ‬ملزما‭ ‬باقتناء‭ ‬المستلزمات‭ ‬الطبية‭ ‬المختلفة‭ ‬رغم‭ ‬توفره‭ ‬على‭ ‬تغطية‭ ‬صحية،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬نظام‭ ‬أمو‭ ‬تضامن‭ ‬«المجاني»‭ ‬أو‭ ‬نظام‭ ‬«أمو‭ ‬الشامل»‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يقدم‭ ‬المنخرط‭ ‬فيه‭ ‬اشتراكات‭ ‬شهرية‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الصحة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتوفرون‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬تغطية‭ ‬صحية‭ ‬بسبب‭ ‬الخوارزميات‭ ‬التي‭ ‬يستعملها‭ ‬المؤشر‭ ‬لتصنيف‭ ‬الوضعية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للمغاربة‭ ‬والتي‭ ‬أقصت‭ ‬عددا‭ ‬ليس‭ ‬بالهيّن‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الوضعية‭ ‬الهشة‭ ‬التي‭ ‬يعيشونها‭ ‬اقتصاديا‭ ‬واجتماعيا‭.‬

هذه‭ ‬الإشكالات‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المستشفى‭ ‬العمومي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جدران‭ ‬بدون‭ ‬روح،‭ ‬بل‭ ‬ينضاف‭ ‬إليها‭ ‬الاكتظاظ‭ ‬وارتفاع‭ ‬الطلب‭ ‬مقابل‭ ‬الشحّ‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬والتي‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ضغط‭ ‬يجعل‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الأطر‭ ‬الطبية‭ ‬والصحية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬وتعيش‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الاحتراق‭ ‬النفسي،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬يُطلب‭ ‬منها‭ ‬القيام‭ ‬بمهام‭ ‬غير‭ ‬مؤطرة‭ ‬قانونيا‭ ‬ولا‭ ‬توفر‭ ‬لها‭ ‬الحماية‭ ‬للقيام‭ ‬بذلك،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لتدخلات‭ ‬ممرضي‭ ‬التخدير‭ ‬والإنعاش‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الطبيب‭ ‬المختص،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬النقل‭ ‬الصحي‭ ‬أثناء‭ ‬مرافقة‭ ‬مريض‭ ‬من‭ ‬مؤسسة‭ ‬استشفائية‭ ‬إقليمية‭ ‬إلى‭ ‬مستشفى‭ ‬جامعي‭ ‬نموذجا،‭ ‬مع‭ ‬استحضار‭ ‬ظروف‭ ‬هذا‭ ‬النقل‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬محفوفة‭ ‬بالمخاطر‭.‬

هذه‭ ‬الأعطاب‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬بأن‭ ‬المغرب‭ ‬لم‭ ‬يقطع‭ ‬أشواطا‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تطوير‭ ‬منظومته‭ ‬الصحية،‭ ‬بل‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬خصّص‭ ‬لها‭ ‬ميزانيات‭ ‬جد‭ ‬مهمة،‭ ‬ارتفعت‭ ‬بالتوالي‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬المعدل‭ ‬الذي‭ ‬توصي‭ ‬به‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬10‭ ‬و12‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬هي‭ ‬اليوم‭ ‬تقارب‭ ‬7‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬كما‭ ‬أعدّ‭ ‬الخبراء‭ ‬والمختصون‭ ‬مخططات‭ ‬وبرامج‭ ‬وخطط‭ ‬وسياسات‭ ‬مختلفة،‭ ‬محدودة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬والأثر،‭ ‬لكن‭ ‬وبكل‭ ‬أسف،‭ ‬إن‭ ‬استطاع‭ ‬بعضها‭ ‬تحقيق‭ ‬نتائج‭ ‬متوسطة‭ ‬أو‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات،‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬لم‭ ‬يؤت‭ ‬أكله‭ ‬لأسباب‭ ‬مختلفة،‭ ‬يحضر‭ ‬فيها‭ ‬«الذاتي»‭ ‬و«الموضوعي»،‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ‭ ‬«التهافت‭ ‬السياسي»‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الصحة‭ ‬في‭ ‬مرات‭ ‬عديدة‭ ‬«رهينة»‭ ‬تقديرات‭ ‬وتجاذبات‭ ‬تتجاوز‭ ‬خدمة‭ ‬الصالح‭ ‬العام،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفاعلين‭ ‬ينادون‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬كثيرة‭ ‬بإحداث‭ ‬هيئة‭ ‬عليا‭ ‬للصحة،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬«مؤسسة‭ ‬حيادية»‭ ‬تضمن‭ ‬«التوزان»‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬استمرارية‭ ‬السياسات‭ ‬الصحية‭ ‬مع‭ ‬تقييمها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أطوارها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادتها‭ ‬إلى‭ ‬سكّتها‭ ‬الصحيحة‭ ‬متى‭ ‬أدى‭ ‬عامل‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬مغادرتها‭ ‬لها،‭ ‬«طوعا»‭ ‬أو‭ ‬«قسرا»‭.‬

واليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬الأشواط‭ ‬التي‭ ‬قطعها‭ ‬المغرب،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬محاربة‭ ‬الأوبئة‭ ‬والأمراض‭ ‬المعدية،‭ ‬أو‭ ‬توسيع‭ ‬برامج‭ ‬التلقيح،‭ ‬مرورا‭ ‬بالتكفل‭ ‬بأمراض‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكل‭ ‬تهديدا‭ ‬صحيا‭ ‬كالسل‭ ‬والسيدا‭ ‬وغيرهما،‭ ‬وباستحضار‭ ‬مراحل‭ ‬تعميم‭ ‬التغطية‭ ‬الصحية،‭ ‬منذ‭ ‬العمل‭ ‬بـ‭ ‬«شهادة‭ ‬الاحتياج»‭ ‬مرورا‭ ‬بنظام‭ ‬المساعدة‭ ‬الطبية‭ ‬«راميد»،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬نتيجة‭ ‬عزيمة‭ ‬قوية‭ ‬للمرحوم‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬اليوسفي،‭ ‬الوزير‭ ‬الأول‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬التناوب،‭ ‬الذي‭ ‬سطّر‭ ‬تفاصيله‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬النور،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الإشكالات‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬التنزيل‭ ‬والعمل‭ ‬بالنموذجين‭ ‬معا،‭ ‬الأول‭ ‬والثاني،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬محطة‭ ‬المبادرة‭ ‬الوطنية‭ ‬للتنمية‭ ‬البشرية‭ ‬ومساهماتها‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحة،‭ ‬وكذا‭ ‬إحداث‭ ‬مؤسسة‭ ‬للاسلمى‭ ‬لمحاربة‭ ‬السرطان‭ ‬وما‭ ‬قدمته‭ ‬هاته‭ ‬المؤسسة‭ ‬للمصابين‭ ‬بهذا‭ ‬المرض‭ ‬القاسي‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬النساء،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الورش‭ ‬الملكي‭ ‬الرائد‭ ‬للحماية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمته‭ ‬قرار‭ ‬تعميم‭ ‬التغطية‭ ‬الصحية،‭ ‬الذي‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الاستفهام‭ ‬التي‭ ‬ترافق‭ ‬بعض‭ ‬محاوره‭ ‬والإشكالات‭ ‬التي‭ ‬تعترضه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التنزيل،‭ ‬فإن‭ ‬المرض‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬الصحة‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬هو‭ ‬غياب‭ ‬الحكامة‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬لأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬يتضح‭ ‬بأنها‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬بالشكل‭ ‬المطلوب‭ ‬علميا‭ ‬وعمليا‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬فعالية‭ ‬نتائجها‭ ‬واستمراريتها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬للتمويل‭ ‬الصحي،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الشق‭ ‬المتعلق‭ ‬بالتأمين‭ ‬الإجباري‭ ‬عن‭ ‬المرض‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬«أمو‭ ‬تضامن»‭ ‬لأن‭ ‬المعادلة‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬هندستها‭ ‬ستعيد‭ ‬تكرار‭ ‬نفس‭ ‬سيناريو‭ ‬نظام‭ ‬المساعدة‭ ‬الطبية‭ ‬«راميد»‭ ‬سابقا،‭ ‬ولأن‭ ‬المرضى‭ ‬اليوم‭ ‬وبسبب‭ ‬تردي‭ ‬الخدمات‭ ‬الصحية‭ ‬العمومية‭ ‬يتجهون‭ ‬نحو‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كلفته‭ ‬المرتفعة،‭ ‬وتشير‭ ‬الأرقام‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬97%‭ ‬من‭ ‬نفقات‭ ‬CNSS‭ ‬للأجراء‭ ‬و96% من‭ ‬نفقات‭ ‬CNSS‮ ‬‭ ‬لغير‭ ‬الأجراء‭ ‬تتوجه‭ ‬نحو‭ ‬المصحات‭ ‬الخاصة،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬حتى‭ ‬الفئات‭ ‬الهشة‭ ‬المستفيدة‭ ‬من‭ ‬أمو‭ ‬تضامن‭ ‬يوجّهون‭ ‬حوالي‭ ‬57%‭ ‬من‭ ‬ملفاتهم‭ ‬نحو‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬مؤمّنو‭ ‬CNOPS‭ ‬موظفو‭ ‬الدولة،‭ ‬فتصل‭ ‬نسبتهم‭ ‬إلى‭ ‬84%‭ ‬الذين‭ ‬يستفيدون‭ ‬من‭ ‬خدمات‭ ‬نفس‭ ‬القطاع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحيلنا‭ ‬على‭ ‬إشكالية‭ ‬ضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬المستشفى‭ ‬العمومي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يقوم‭ ‬بدوره‭ ‬الأساسي‭ ‬لأنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قاطرة‭ ‬للصحة‭ ‬لا‭ ‬العكس،‭ ‬وهذا‭ ‬يتأكد‭ ‬حين‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستفيد‭ ‬سوى‭ ‬من‭ ‬نسب‭ ‬جد‭ ‬ضعيفة‭ ‬تتراوح‭ ‬بما‭ ‬بين‭ ‬3‭ ‬و16%،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهذا‭ ‬الاختلال‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إفلاس‭ ‬المستشفى‭ ‬العمومي،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الجهود‭ ‬تتوجه‭ ‬اليوم‭ ‬لتنزيل‭ ‬مجموعات‭ ‬صحية‭ ‬ترابية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجميع‭ ‬كل‭ ‬المؤسسات‭ ‬الصحية‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬بنية‭ ‬واحدة‭ ‬لها‭ ‬استقلالية‭ ‬مالية‭ ‬وإدارية،‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬أصلا‭ ‬من‭ ‬خصاص‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬وفي‭ ‬التجهيزات،‭ ‬ومن‭ ‬ضعف‭ ‬التمويل،‭ ‬ويزداد‭ ‬السوء‭ ‬أكثر‭ ‬بالتوجه‭ ‬نحو‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬المستشفيات‭ ‬العمومية‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬«التمويلات‭ ‬المبتكرة»‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬ينسينا‭ ‬إشكالية‭ ‬أخرى‭ ‬تتعلق‭ ‬بالتعريفة‭ ‬المرجعية‭ ‬الوطنية‭ ‬المتقادمة‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬لسنة‭ ‬2006‭ ‬والتي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬يتم‭ ‬احتساب‭ ‬التعويضات‭ ‬عن‭ ‬المصاريف‭ ‬العلاجية‭ ‬حيث‭ ‬يجد‭ ‬المواطن‭ ‬المؤمّن‭ ‬نفسه‭ ‬يتحمل‭ ‬حوالي‭ ‬60‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬مصاريف‭ ‬كل‭ ‬ملف‭ ‬مرضي‭ ‬على‭ ‬نفقته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تخلي‭ ‬الكثيرين‭ ‬عن‭ ‬العلاج‭ ‬ولا‭ ‬يطرقون‭ ‬أبواب‭ ‬العيادات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الصحية‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭ ‬القصوى،‭ ‬مما‭ ‬يرفع‭ ‬كلفة‭ ‬العلاج‭ ‬ويؤخر‭ ‬من‭ ‬نسب‭ ‬التعافي‭ ‬ويهدد‭ ‬بتبعات‭ ‬صحية‭ ‬واقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬أوخم‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬هناك‭ ‬مرض‭ ‬آخر‭ ‬يتهدد‭ ‬الصحة‭ ‬العمومية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالعلّة‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬لأنه‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬المهنيين‭ ‬الشرفاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬الذي‭ ‬يقومون‭ ‬بواجبهم‭ ‬المهني‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬فئة‭ ‬أخرى‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬المستشفى‭ ‬العمومي‭ ‬مجرد‭ ‬محطة‭ ‬لاستقطاب‭ ‬زبائن‭ ‬نحو‭ ‬وجهات‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬مصدرا‭ ‬«ثانويا»‭ ‬للدخل،‭ ‬وهي‭ ‬تقضي‭ ‬معظم‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬أخرى‭ ‬وتترك‭ ‬المرضى‭ ‬يئنون‭ ‬ألما،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬معضلة‭ ‬الاستقالات،‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬الرفض‭ ‬يتم‭ ‬هجران‭ ‬مكان‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حث‭ ‬الوزارة‭ ‬على‭ ‬تفعيل‭ ‬المساطر‭ ‬الإدارية،‭ ‬وكذا‭ ‬هجرة‭ ‬الكفاءات‭ ‬الصحية‭ ‬نحو‭ ‬الخارج‭ ‬التي‭ ‬تزداد‭ ‬حدتها،‭ ‬ومحدودية‭ ‬التكوين،‭ ‬مع‭ ‬استحضار‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬تخبطت‭ ‬فيها‭ ‬كليات‭ ‬الطب‭ ‬والصيدلة‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬الخريجين،‭ ‬ونفس‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمشاكل‭ ‬الأطباء‭ ‬الداخليين‭ ‬والمقيمين،‭ ‬وإشكال‭ ‬أرضيات‭ ‬التداريب،‭ ‬وكذا‭ ‬عدم‭ ‬ملائمة‭ ‬التكوين‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬لمتطلبات‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬الصحي‭ ‬مما‭ ‬أنتج‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العاطلين‭ ‬(في‭ ‬مجال‭ ‬التمريض)‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬الخصاص‭ ‬إلى‭ ‬قرابة‭ ‬الـ‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أطباء‭ ‬وممرضين‭ ‬وتقنيين‭ ‬للصحة،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬كذلك‭ ‬مشكل‭ ‬انقراض‭ ‬الأدوية‭ ‬من‭ ‬الصيدليات‭ ‬واختفاء‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنواع،‭ ‬وارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأسواق‭ ‬الدوائية‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭.‬

هذه‭ ‬الأعطاب‭ ‬وغيرها،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬تدبير‭ ‬غير‭ ‬سليم‭ ‬لا‭ ‬يضمن‭ ‬استمرارية‭ ‬السياسات‭ ‬الصحية‭ ‬والتقائيتها‭ ‬مع‭ ‬تقييمها‭ ‬بشكل‭ ‬مستمر،‭ ‬لن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلا‭ ‬لتفشي‭ ‬مظاهر‭ ‬الاحتقان‭ ‬والسخط،‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المهنيين‭ ‬الشرفاء،‭ ‬وفي‭ ‬صفوف‭ ‬المواطنين،‭ ‬لأن‭ ‬الوزارة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬هذه‭ ‬الأمراض‭ ‬بدوريات‭ ‬ومناشير‭ ‬وتصريحات‭ ‬ترمي‭ ‬باللائمة‭ ‬على‭ ‬موظفيها‭ ‬فقط،‭ ‬وتحث‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬الوقت‭ ‬وعلى‭ ‬الرفع‭ ‬من‭ ‬المردودية‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬وسائل‭ ‬العمل،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬توفير‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬الضرورية‭ ‬كمّا‭ ‬وكيفا،‭ ‬وتوفير‭ ‬الأرضية‭ ‬التي‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬الجودة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المعدات‭ ‬والأجهزة‭ ‬والأدوية‭ ‬وغيرها،‭ ‬وكذا‭ ‬تحفيز‭ ‬المهنيين‭ ‬ماديا‭ ‬ومعنويا‭ ‬وحمايتهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اعتداء،‭ ‬وربط‭ ‬المسؤولية‭ ‬بالمحاسبة‭ ‬الحقيقة،‭ ‬واعتماد‭ ‬تدبير‭ ‬جهوي‭ ‬يكون‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬تشخيص‭ ‬المشاكل‭ ‬وتحديد‭ ‬الاحتياجات‭ ‬حسب‭ ‬خصوصيات‭ ‬كل‭ ‬جهة،‭ ‬وتوفير‭ ‬ترسانة‭ ‬قانونية‭ ‬تحمي‭ ‬المزاولين‭ ‬لمهامهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬واضح‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تداخل،‭ ‬وتفعيل‭ ‬شراكة‭ ‬عقلانية‭ ‬وواضحة‭ ‬بين‭ ‬القطاعين‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتطور‭ ‬وتوقفت‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬بعض‭ ‬المجالات‭.‬

إننا‭ ‬اليوم‭ ‬ونحن‭ ‬نستعد‭ ‬لاستقبال‭ ‬تظاهرات‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬مونديال‭ ‬2030،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬التحولات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬تعرفها‭ ‬بلادنا‭ ‬والتطور‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬القبول‭ ‬باستمرار‭ ‬تدبير‭ ‬قطاع‭ ‬الصحة‭ ‬الحيوي‭ ‬بالارتجالية‭ ‬والتعامل‭ ‬اللحظي‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬قضاياه،‭ ‬ويجب‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬تمكين‭ ‬«مؤسسات‭ ‬الحكامة‭ ‬الصحية»‭ ‬مثل‭ ‬الهيئة‭ ‬العليا‭ ‬للصحة،‭ ‬والوكالة‭ ‬الوطنية‭ ‬للأدوية‭ ‬ومستلزمات‭ ‬الصحة‭ ‬والوكالة‭ ‬الوطنية‭ ‬للدم‭ ‬ومشتقاته‭ ‬من‭ ‬القيام‭ ‬بأدوارها‭ ‬الصحيحة،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تخبط‭ ‬أو‭ ‬وصاية‭ ‬«غير‭ ‬شرعية»،‭ ‬لكي‭ ‬تساهم‭ ‬من‭ ‬موقعها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الجمعيات‭ ‬العلمية‭ ‬العالمة‭ ‬والشركاء‭ ‬الاجتماعيين‭ ‬وعموم‭ ‬المتدخلين،‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬جهود‭ ‬إصلاح‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية،‭ ‬التي‭ ‬أضحت‭ ‬ورشا‭ ‬كبيرا‭ ‬تشريعيا‭ ‬وتنظيميا،‭ ‬لكنها‭ ‬ولحد‭ ‬الساعة‭ ‬تفتقد‭ ‬للنجاعة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬للمواطن‭ ‬أن‭ ‬يلمس‭ ‬آثارها‭ ‬على‭ ‬صحته‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬وأن‭ ‬يتم‭ ‬كذلك‭ ‬الاشتغال‭ ‬بالنفس‭ ‬الوحدوي‭ ‬الذي‭ ‬ميّز‭ ‬فترة‭ ‬مواجهة‭ ‬الجائحة‭ ‬الوبائية‭ ‬لفيروس‭ ‬كوفيد‭ ‬19،‭ ‬حيث‭ ‬أعطى‭ ‬الكلّ‭ ‬مثالا‭ ‬على‭ ‬المواطنة‭ ‬الرفيعة‭ ‬وعلى‭ ‬التضامن‭ ‬الفعلي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجاوز‭ ‬تلك‭ ‬الأزمة‭ ‬الصحية‭.‬
 
وحيد مبارك/ رئيس القسم الاجتماعي بجريدة الاتحاد الاشتراكي، صحفي مهتم بالشأن الصحي وقضايا الصحة