فكري سوسان: الحسيمة.. صرخة مثقف على درب استعادة طليعة التدبير المحلي

فكري سوسان: الحسيمة.. صرخة مثقف على درب استعادة طليعة التدبير المحلي فكري سوسان
الحسيمة لم تعد تحتمل المجاملة ولا صمت أبنائها الذين عرفوا شموخها قبل أفولها. ما كتبه محمد أمزيان لم يكن فلتة غضب، بل وجعَ مدينة تُستنزَف فيما من بيدهم القرار غافلون عن أن الانهيار العاطفي أخطر من العطب الإداري. وحين يشعر المثقف بأن مدينته تُهان بصمت، تصبح الكلمة آخر أشكال الوفاء.
 
افتتح الكاتب والمؤرخ الريفي محمد أمزيان، في أحد مواسم الصيف الأخيرة، رسالته المفتوحة إلى صديقه نجيب الوزاني بكلمات صريحة ومؤثرة: "بيانك الأخير حول ظاهرة احتلال الملك العام في المدينة كان بياناً بئيساً وبائسا، يفتقد لأدنى إحساس بالمسؤولية... الحسيمة مدينة استثنائية، وتحتاج إلى رؤية استثنائية... إنها الآن تُستنزف، تنزِف، تئن. إنها، باختصار شديد، مدينة تتشوّه."
 
لم تكن هذه العبارات هجوماً شخصياً، بل صرخة مثقف غيور على مدينته. ومن يعرف صاحبها يدرك لماذا تكتسب هذه الكلمات قيمة خاصة. فمحمد أمزيان يُعد من أبرز الأقلام الريفية المعاصرة، جمع بين البحث الأكاديمي والعمل الإعلامي والكتابة الأدبية. عرفه القراء من خلال دراساته التاريخية حول المغرب الحديث، خاصة تاريخ الريف، من بينها محمد عبد الكريم الخطابي... آراء ومواقف ومحنة الريف ودبلوماسية البارود. كما خاض تجربة السرد الروائي في أوراق الخزامى وإقبان: سيرة جبل، حيث منح للخيال دوراً إضافياً لحفظ الذاكرة الجماعية. عمل أيضاً سنوات في الصحافة وفي القسم العربي لإذاعة هولندا الدولية، مما جعله جسراً بين دياسبورا الريف وريف الداخل.
 
ومن منطلق هذا الروح، أكتب هذه السطور بصفتي واحداً من أبناء الحسيمة الذين عاشوا دروبها وأحلامها وارتبطوا بها في لحظات الشموخ والانكسار. لم أعشها فقط كساكن أو زائر، بل كمَن تحمّل مسؤوليات إدارية وتعليمية. هذا الرصيد يجعلني أشارك محمد أمزيان إحساسه العميق: المدينة التي نحبها مهددة بالخذلان.

ما عبّر عنه أمزيان بلغة المثقف الغيور، أعيشه أنا أيضاً بذاكرة من الداخل. فالحسيمة ليست مجرد ملف إداري أو قضية انتخابية، بل كيان روحي وثقافي يفرض علينا أن نرفع الصوت حين نرى ارتباك القيادة وغياب البوصلة. النقد هنا ليس خصومة، بل واجب أخلاقي. فالمثقف، حين يكون ابن المدينة، لا يملك ترف الصمت.
 
الدكتور نجيب الوزاني شخصية تحظى بسمعة طيبة داخل الحسيمة وخارجها. عُرف كجرّاح عظام بارع، أنقذ حياة كثيرين وردّ الصحة إلى أجساد أنهكها الألم. في عيادته بالرباط، لم يكن يفرّق بين مريض وآخر، ولا بين قريب أو غريب. استقبل كل من طرق بابه، سواء كانت حالته من صميم اختصاصه أو لا، فكان يوجّه، يعالج، ويقدّم ما يستطيع بكرم وطيبة. هذه السيرة المهنية والإنسانية جعلت صورته متجذّرة في أذهان الكثيرين كرجل صاحب إحساس عميق بالانتماء إلى مدينته وأهلها.
 
من يعرفه عن قرب يشهد بصفاته: سخاء في الوقت والجهد، استعداد دائم لمساعدة المحتاج، وحسّ قوي بالمسؤولية الاجتماعية. تلك الصورة كطبيب وكإنسان هي التي جعلت الساكنة تراهن عليه حين اختارته لقيادة المجلس البلدي. لقد رأوا فيه الرجل النزيه، الملتصق بالناس، القادر أن ينقل تلك الأخلاق المهنية إلى تدبير الشأن العام.
 
غير أنّ الصورة الإيجابية التي يحملها الناس عن الدكتور الوزاني، بما فيها من نزاهة وعطاء إنساني، تشوش عليها سرعة الانتقال من موضع التكنوقراطي إلى صفة السياسي الممارس للشأن العام المحلي. فالسياسة حين تُختزل في ملفات تقنية وإجراءات إدارية، تفقد بعدها الحيوي، وتغدو عاجزة عن تلبية ما تنتظره الساكنة من رؤية وتخطيط.
هذا الارتباك يتضح أكثر مع عودة أبناء الجالية الريفية في الصيف. آلاف من المهاجرين وأبنائهم يحطّون الرحال في مدينتهم الأم، محمّلين بصورة مثالية عمّا يمكن أن تكون عليه الحسيمة. لكنهم، بمجرّد المقارنة مع مدن أوروبية صغيرة حيث يقيمون، يكتشفون الفارق المؤلم: طرق محفّرة، مرافق ضعيفة، وغياب فضاءات ثقافية ومجتمعية تليق بمدينة توصف بأنها “لؤلؤة المتوسط”.
 
الأمر لا يتوقف عند البنية التحتية، بل يطال الحياة الفكرية والثقافية. الحسيمة التي عرفت، قبل عقود، دينامية فكرية وإيديولوجية وسياسية خصبة، تحوّلت اليوم إلى فضاء صامت. الجمعيات التي كانت تشكّل رئة المجتمع المدني تراجعت، والمبادرات الثقافية جفّت، والنقاش العام خفت. هذا التراجع لا يمسّ النخبة فقط، بل ينعكس مباشرة على الشباب.
 
شباب الريف يعيش نوعاً من الفراغ المدمّر. بلا فضاءات ولا مبادرات جاذبة، يجد نفسه أمام خيارين: إما الهجرة بحثاً عن “إلدورادو” الأوروبي، أو الانغماس في نزعات عدميّة تُحوّل طاقاته إلى غضب واحتجاج غير مؤطر. النتيجة نزيف بشري متواصل، يُفرغ المدينة من أجيالها الصاعدة، ويُفقدها زخمها الحيوي.
 
الحسيمة اليوم لا تحتاج إلى أعذار، بل إلى قيادة تفتح آفاقاً جديدة. الدكتور الوزاني بما يملكه من رصيد إنساني ومهني، يملك أيضاً فرصة تاريخية: أن يحوّل صورته النزيهة إلى مشروع ثقافي وتنموي يعيد للمدينة شبابها المهاجر وروحها المفقودة. فالثقة، مثل العظم المكسور، لا تلتئم وحدها، بل تحتاج إلى جبيرة صحيحة وإلى يد خبيرة. والمدينة تنتظر أن تتحول مهارة الجراح في غرفة العمليات إلى شجاعة سياسية في ساحة القرار، وإلا فإن الطبيعة لا تقبل الفراغ. و"رَحِمَ اللهُ امرأً أهدى إليّ عيوبي" !
 
فكري سوسان/ أستاذ باحث