من جديد، ظهر الرئيس عبد المجيد تبون في لقاء إعلامي طال انتظاره من طرف الجزائريين، لكن بدل أن يكون هذا اللقاء مناسبة حقيقية لمصارحة الشعب والاعتراف بالأزمات الخانقة التي يعيشها البلد، جاء الخطاب باهتًا ومفرغًا من أي مضمون، محاطًا بأسئلة سطحية تكشف أكثر مما تُخفي عن طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة والإعلام. لقاء كشف بجلاء أن النظام يعيش في عزلة عن واقع مواطنيه، وأنه يصرّ على تجاهل القضايا الحقيقية التي تؤرقهم يوميًا.
كارثة الحراش… مأساة بلا ذكر
أول ما يُلفت الانتباه في خطاب تبون هو تجاهله التام لكارثة الحراش، تلك الحادثة الأليمة التي هزّت وجدان الجزائريين، وأظهرت عجز المنظومة عن حماية أبنائها والتعامل مع الطوارئ. هذه الكارثة لم تكن مجرد حادث عرضي، بل كانت دليلًا على هشاشة مؤسسات الدولة، وفضحت غياب الاستعدادات اللوجستية والإدارية لمواجهة الكوارث. لكن الرئيس لم يتحدث عنها، لم يقدّم تفسيرًا، لم يعلن عن محاسبة أي مسؤول، بل مرّ عليها وكأنها لم تقع. هذا الصمت المريب لا يمكن قراءته إلا باعتباره إهمالًا مقصودًا ومحاولة لطمس الفشل تحت بساط النسيان.
الهجرة غير النظامية… نزيف لا يتوقف
في الأسابيع الأخيرة، شهدت السواحل الجزائرية خروج عشرات الزوارق في ليلة واحدة، في مشهد مؤلم يعكس عمق الأزمة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها الشباب. آلاف الحالمين بالنجاة يغامرون بحياتهم في عرض البحر لأنهم لم يعودوا يرون في وطنهم مستقبلًا لهم. كان على الرئيس أن يطرح هذا الملف بجدية، أن يتحدث عن الأسباب الحقيقية التي تدفع شبابًا في مقتبل العمر إلى مغادرة بلد غني بالموارد، بلد كان يمكن أن يكون جنة على المتوسط لولا الفساد وسوء التسيير. لكن تبون فضّل الصمت. فكيف لشباب يغامر بالموت في البحر أن يثق في وعود رئيس يتجاهل معاناته؟
الفيضانات… فضيحة البنية التحتية
الأمطار الأخيرة حولت مدنًا بأكملها إلى برك ومستنقعات. شوارع غمرتها المياه، سيارات جرفتها السيول، بيوت تهدمت، وعائلات تشردت. هذه المشاهد ليست جديدة، فهي تتكرر كل عام منذ عقود، لكنها تكشف شيئًا واحدًا: البنية التحتية الجزائرية منهارة، والمليارات التي صرفت على مشاريع الطرق والمجاري والتهيئة الحضرية إما ذهبت في جيوب الفاسدين أو أُنجزت بأدنى مستويات الجودة. في بلد صرف ملايير الدولارات على مشاريع "التنمية"، كيف نفسر أن ساعة مطر كافية لشلّ المدن وتحويلها إلى مناطق منكوبة؟ الرئيس لم يتطرق للموضوع، لم يتحدث عن المسؤوليات، ولم يطرح حلولًا مستقبلية. مجرد صمت يعكس عجزًا أو تجاهلًا متعمدًا.
أسئلة على المقاس… إعلام بلا جرأة
لكن القشة التي قصمت ظهر الثقة كانت طبيعة الأسئلة المطروحة على الرئيس. بدلًا من أن تكون هناك جرأة لمساءلته عن الفساد المستشري، عن انهيار القدرة الشرائية، عن تدهور التعليم والصحة، أو عن عزلة الجزائر إقليميًا ودوليًا، اكتفى الصحفيون بطرح أسئلة تافهة من قبيل: أين قضى الرئيس عطلته؟ أو كيف يقضي أوقاته بعيدًا عن الرئاسة؟.
هل هذا هو مستوى الصحافة الجزائرية؟ هل يُعقل أن نعيش أزمات بهذا الحجم، ويكون شغل الصحفيين الشاغل هو "الاستراحة الصيفية للرئيس"؟ هذا المشهد يعكس حقيقة مرة: الإعلام الرسمي فقد دوره كسلطة رابعة، وتحول إلى مجرد بوق يُعيد تدوير خطاب السلطة ويساهم في إلهاء الرأي العام.
الغياب عن الأحداث… رئيس في الظل
تكررت في الآونة الأخيرة ملاحظة غياب تبون عن كل الأزمات الكبرى. في الكوارث الطبيعية، في المآسي الإنسانية، في اللحظات التي يحتاج فيها المواطن إلى كلمة طمأنة أو خطة عمل واضحة، لا يظهر الرئيس. يترك الساحة لشائعات وارتباك، ثم يطل لاحقًا في لقاءات بروتوكولية لا تقدّم شيئًا سوى المزيد من الغموض. هذا الغياب يثير تساؤلات حقيقية: هل هو غياب بسبب ضعف في الأداء الصحي والسياسي؟ أم هو استراتيجية متعمدة للهروب من مواجهة الحقائق وتفادي المساءلة؟
انفصال النظام عن الشعب
ما يمكن استنتاجه بوضوح من خطاب تبون الأخير هو أن النظام يعيش في واد، والجزائريون في واد آخر. فبينما يرزح المواطنون تحت أعباء الغلاء، البطالة، الكوارث الطبيعية، وانسداد الأفق السياسي، يواصل الرئيس إلقاء خطابات فارغة بلا مضمون، ويُسمح للصحفيين بطرح أسئلة لا قيمة لها سوى تلميع صورته. النتيجة: شعور متزايد بالاغتراب بين السلطة والشعب، وانعدام ثقة يتسع يومًا بعد يوم.
الخلاصة
خطاب تبون الأخير لم يكن إلا صورة مكبرة للأزمة التي تعيشها الجزائر: أزمة نظام يرفض الاعتراف بفشله، وإعلام فقد جرأته، ورئيس غائب عن قضايا أمته. في الوقت الذي ينتظر فيه الجزائريون إجابات عن المآسي اليومية، يقدَّم لهم كلام إنشائي وأسئلة تافهة لا تلامس واقعهم. وإذا استمر هذا النهج، فإن المسافة بين السلطة والشعب لن تزيد إلا اتساعًا، وسيبقى النظام حبيس خطاباته الفارغة، فيما يواصل الجزائريون رحلة البحث عن أمل ولو خارج حدود الوطن.
كريم مولاي، خبير أمني جزائري - لندن