سعيد الكحل: الحاجة إلى نموذج سياسي جديد

سعيد الكحل: الحاجة إلى نموذج سياسي جديد سعيد الكحل

لم يعد مقبولا الاستمرار في التعايش مع وضع سياسي بات فاقدا لكل صلاحية، خصوصا مع اعتماد دستور 2011 الذي ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعلى الديمقراطية التشاركية. وضع سياسي انتهى بالمغرب إلى مزيد من التقهقر على مستوى مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية “ترانسبرانسي؛ حيث احتل سنة 2010، المرتبة 85 عالميا بين 178 دولة، وصار يحتل المرتبة 90 سنة 2016، ثم الرتبة 97 سنة 2023؛ ليتقهقر إلى المرتبة 99 عالميًا سنة 2024. وكأن الدستور لا تأثير ولا أثر له على الحياة السياسية. علما أن الحكومة المغربية اعتمدت، سنة 2015، "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد". رغم ذلك، ظل الفساد ينخر الإدارة المغربية والحياة السياسية والحزبية على السواء؛ ما جعل المغرب يحتل المرتبة 92 من أصل 142 في مؤشر سيادة القانون لعام 2023، الصادر عن مشروع العدالة العالمية (WJP). الأمر الذي جعل منظمة الشفافية الدولية تدعو المغرب إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة لتفعيل القوانين القائمة، وتعزيز استقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية، وضمان مكافحة تضارب المصالح والرشوة في القطاعات الحساسة. وكما تجاهلت الحكومة دعوة منظمة الشفافية، تجاهلت التوجيهات الملكية في أكثر من مناسبة، ومنها خطاب جلالة الملك أمام البرلمان في أكتوبر2019 الذي شدد فيه على أن (المرحلة الجديدة تبدأ من الآن، وتتطلب انخراط الجميع، بالمزيد من الثقة والتعاون، والوحدة والتعبئة واليقظة، بعيدا عن الصراعات الفارغة، وتضييع الوقت والطاقات.. ولا مجال هنا للتهرب من المسؤولية، في ظل التطبيق الصارم، لربط المسؤولية بالمحاسبة). وها قد مرت ست سنوات دون الأخذ بالتوجيهات الملكية وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة.

دولة رخوة وأحزاب خارج الخدمة.

صار واضحا أن تردي الوضع السياسي تتقاسم مسؤوليته الدولة والأحزاب السياسية. فبعد أن اختارت الدولة مجاراة رغبات الأحزاب والاستجابة لطلباتها، سواء بضمان حصصها من الريع السياسي (الدعم المالي، لائحة الشباب للعضوية في البرلمان، تخفيض العتبة الانتخابية..)، أو التغاضي عن فساد بعض مسؤوليها وممثليها في المجالس المنتخبة، أو بالتراخي في تحريك مساطر المحاسبة (مرور سنوات على بعض الملفات دون صدور الأحكام القضائية)؛ أو بتقطيع دوائر انتخابية على مقاس بعض مرشحي تلك الأحزاب، أو بعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة. والأخطر هو السماح للمتابعين في ملفات الفساد، إما بمزاولة مهامهم التمثيلية، أو بإعادة الترشح للانتخابات. ومن شأن هذه المواقف الرخوة للدولة أن تزيد من استفحال الفساد وتغوّل الفاسدين.

مسؤولية الأحزاب فيمكن إجمالها في جعلها الولاءات أهم من الكفاءات، وفي فسح المجال للانتهازيين والفاسدين وسماسرة الانتخابات على حساب المصلحة العامة. وهذا ما كشف عنه استطلاع حديث للمركز المغربي للمواطنة (CMC)، بحيث يعتبر64,3% من المشاركين أن “المال” هو مفتاح الصعود في الهياكل الحزبية، يليه “الولاء والتملق” بنسبة 60,8%، و”العلاقات الزبونية” بـ 48,5%. ، الكفاءة والخبرة التنظيمية فلم يخترهما سوى 28,5% من المشاركين. إذ ما يهم الأحزاب هي المناصب والمكاسب دون مصلحة الناخبين. لأجل هذا ترفض الأحزاب تجديد نخبها وتغيير قياداتها والانفتاح على مشاكل المواطنين بابتكار الحلول عبر إشراكهم في النقاش العمومي لكل القضايا والملفات التي تهمهم. ويزداد الوضع سوءا في حالة أحزاب الأغلبية الحكومية التي تتولى تدبير الشأن العام في تجاهل تام لمطالب المواطنين وانتظاراتهم.

حصيلة فساد المشهد السياسي:

لقد ترتب عن فساد الوضع السياسي:

أ ـ ارتفاع نسبة العزوف عن التصويت في الانتخابات، ما يعكس مشاعر التذمر وسط فئات واسعة من الناخبين التي لم تعد ترى فائدة في العمليات الانتخابية طالما ظلت الأوضاع الاجتماعية لا تحظى باهتمام الطبقة السياسية.

ب ـ فقدان الثقة في الأحزاب، بحيث كشفت نتائج استطلاع المركز المغربي للمواطنة، التي أصدرها تحت عنوان “الأحزاب السياسية المغربية وأزمة المصداقية أن 91,5% من المستجوبين يعتبرون أداء الأحزاب ضعيفا، مقابل 7,6% اعتبروه متوسطا، في حين لم يعبر عن الرضا الإيجابي منها سوى 0,9% فقط. علما أن الأحزاب تتقاضى دعما مهما من خزينة الدولة مقابل تأطير المواطنين.

ج ـ فقدان الثقة في المؤسسات المنتخَبة بسبب أدائها الباهت، إذ عبّر 89,5% عن تقييمهم السلبي للبرلمان، و87,3% للحكومة و80,6% للمعارضة السياسية.

د ـ اتساع موجة الاحتجاجات الاجتماعية ضد التهميش والبطالة والإهمال وانعدام أو ضعف الخدمات الاجتماعية (الصحة، التعليم).

هـ ـ ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاما، والذين يقرب عددهم من 4.5 ملايين وهم بلا عمل ولا تعليم ولا تكوين. الأمر الذي يبين عجز الحكومة عن معالجة هذه المشاكل.

و ـ غياب البرلمانيين بأعداد كبيرة، خصوصا في المحطات الحاسمة (نموذج تغيب 300 نائب برلماني عن الجلسة العامة بتاريخ 22 يوليوز 2025، والمخصصة للمصادقة على مشاريع قوانين).

ز ـ تغلغل الفاسدين في صفوف الأحزاب وفي البرلمان، حيث تم تجريد من المسؤولية الانتخابية31 برلمانيا ينتمون إلى التحالف الحكومي من ضمن 42 برلمانيا، رغم عدم تحريك ملفات كثير من البرلمانيين ورؤساء المجالس الترابية.

ح ـ استعمال المال في الانتخابات، سواء ببيع التزكيات أو شراء أصوات الناخبين أو استقطاب المستشارين لتشكيل الأغلبية في المجالس المنتخبة.

ط ـ غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة رغم استفحال الفساد وتواتر تقارير المجلس الأعلى للحسابات ولجان التفتيش؛ الأمر الذي يحمي الفاسدين ويضمن إفلاتهم من العقاب.

ي ـ تضارب المصالح، إذ دعت منظمة الشفافية الدولية السلطات المغربية إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة لتفعيل القوانين القائمة، وتعزيز استقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية، وضمان مكافحة تضارب المصالح والرشوة في القطاعات الحساسة، لكن الاستجابة كانت جد محدودة.

ك ـ تعدد أوجه الفساد: اختلاس المال العام، الاحتيال وتضارب المصالح، الصفقات العمومية المشبوهة، التهرب الضريبي، الإثراء غير المشروع، الترامي على أملاك الدولة والجماعات السلالية وحتى عقارات الخواص (لوبي العقارات) دون وجه حق، استغلال النفوذ لتحقيق المصالح الخاصة ومراكمة الثروة، تشجيع الريع السياسي (نموذج تقديم 13 مليار درهم كمنح لمستوردي اللحوم الحمراء).

ل ـ هيمنة الحكومة على مسار إعداد القوانين وتعطيل الديمقراطية التشاركية (المسطرة الجنائية، قانون الصحافة، القانون التنظيمي للإضراب رقم 97.15، مشروع القانون 59.24 لإصلاح منظومة التعليم العالي..).

معالم النموذج السياسي الجديد.

أ ـ القطع مع مخلفات التجربة السياسية الحالية، سواء ما يتعلق بالتقطيع الانتخابي، أو استعمال المال والدين والمساعدات الاجتماعية لكسب أصوات الناخبين. وهذا يقتضي تجريم هذه الممارسات مع تشديد عقوباتها لتصل إلى الحرمان المطلق من الترشح للانتخابات أو تولي المهام الانتدابية.

ب ـ ربط المسؤولية بالمحاسبة بما يستوجبه من: تقديم كل الملفات التي أنجزها المجلس الأعلى للحسابات إلى القضاء مع تسريع وتيرة البت فيها، منع المتورطين في الفساد من الترشح للانتخابات، وعزل كل من تحوم حوله شبهات الفساد من الترشح للمهام الانتدابية، ضمانا للنزاهة ولعدم الإفلات من العقاب.

ج ـ رفع العتبة الانتخابية بهدف وضع حد لبلقنة المشهد الحزبي والاتجار في التزكيات.

د ـ تقليص عدد أعضاء البرلمان بغرفتيه ترشيدا للنفقات وضمانا لفاعليته مع تشديد العقوبات في حق المتغيبين بدون أعذار قاهرة.

هـ القطع مع أسلوب التدخل في الحياة الداخلية للأحزاب وصناعة الخريطة السياسية حتى لا تتحمل الدولة أخطاء الأحزاب أو فشلها في تدبير الشأن العام، ولضمان تنافسية شريفة بين الفاعلين السياسيين.

و ـ إصدار قانون تضارب المصالح والتشديد في تطبيقه حماية للمال العام وضمانا للشفافية والنزاهة.

لا يمكن الاستمرار في نموذج سياسي وحزبي فقد صلاحيته وبات عبءا على الدولة والشعب؛ بل عائقا أمام تطبيق توصيات لجنة النموذج التنموي الجديد. الأمر الذي سيعطل جهود التنمية ويزيد الأوضاع الاجتماعية تأزيما واحتقانا. ولعل الاحتجاجات على تردي الخدمات الاجتماعية واستفحال البطالة ونهب المال العام ناقوس خطر يفرض التعاطي مع المطالب الاجتماعية بكل جدية وفعالية وروح وطنية مسؤولة.