سفيان الداودي: الاعتبار الإنساني شرط الاستمرارية

سفيان الداودي: الاعتبار الإنساني  شرط الاستمرارية سفيان الداودي
تُعتبر مسألة الاستمرارية داخل التنظيمات المدنية إشكالية مركزية في الفكر التربوي والسياسي المعاصر. فهي ليست مجرد قدرة تقنية على تدبير الزمن أو ضمان بقاء البنية والهياكل، بل سؤال فلسفي وتربوي يتصل مباشرة بمكانة الإنسان داخل الدائرة.
 
فهل يمكن للتنظيمات أن تضمن ديمومة الفرد بالتركيز على النتائج وحدها، متناسية أن الإنسان هو الفاعل والمحرك؟ أم أن هذه الاستمرارية مشروطة بوجود قواعد وضمانات تصون الاعتبار الإنساني وتُعزز الانتماء الواعي؟ وكيف يمكن أن يستمر الأفراد إذا شعروا بالتهميش وانعدام الاعتراف؟ ثم ألا يكون التوقف أحياناً عن الاستمرار في مسار خاطئ أرقى من الاندفاع في استمرارية عمياء تُفضي إلى الانهيار؟
 
لقد علمتنا قيم التربية الشعبية أن التنظيمات ليست آلات ميكانيكية تُنتج النتائج بمعزل عن الفاعلين، بل هي فضاءات للتكوين الذاتي والجماعي حيث يصبح كل فرد جزءاً من مشروع تحرري أوسع. ومن هنا يصبح معنى الاستمرارية أوسع من مجرد دوام هيكلي، إنه فعل تربوي جماعي يعيد الاعتبار للإنسان كغاية.
 
1- شروط وضمانات الاستمرارية
الاستمرارية، من منظور التربية الشعبية، ليست قدراً محتوماً ولا ترفاً خطابياً، بل نتاج شروط وضمانات عملية تحمي الأفراد وتضمن دينامية الجماعة.
 
أ) الاعتراف بالفرد كذات فاعلة:
الإنسان لا يستمر حيث يُعامل كرقم أو أداة. الاعتراف بكرامته، بأفكاره، بقدراته هو الأساس. الاعتراف ليس مجاملة شكلية، بل شرط جوهري لاستمرار الانخراط والفاعلية. فالاعتراف المتبادل هو شرط الحرية. ومن دون حرية واعتراف، لا حديث عن استمرارية حقيقية.
 
ب) العدالة الداخلية:
الاستمرارية تتطلب توزيعاً عادلا للمسؤوليات والفرص. فإذا تحولت التنظيمات إلى فضاءات للامتيازات الضيقة، فإن الانتماء يفقد معناه.
 
ج) المشاركة الديمقراطية:
القرارات التي تُفرض من فوق لا تخلق استمرارية، بل تنفر الأعضاء وتفرغ العمل الجماعي من روحه. فالمشاركة الديمقراطية هي التي تجعل كل فرد شريكاً في صياغة المستقبل وله موقع داخل الدائرة. وهنا تصبح الاستمرارية مرتبطة بتبني الديمقراطية الداخلية للتنظيمات، بما يعنيه ذلك من وضوح في الرؤى والأهداف، ومن خلق آليات لدمج الكفاءات واحتضانها، وإرساء لجان وظيفية تُمكّن كل فرد من إيجاد مكانه ومهامه داخل الجماعة.
 
د) إشعاع المعرفة بدل تملكها:
لا يمكن أن تستمر الجماعة إذا ظلت المعرفة محتكرة في يد فئة ضيقة. فالمعرفة، حين تتحول إلى سلطة محتكرة، تزرع التفاوت والجمود. أما حين تصبح مشاعة ومتداولة، فإنها تضمن تجدد التنظيم وتحرير أفراده.
 
هـ) تدويب الاختلافات بشكل خلاق:
الاختلاف ليس خطراً على الاستمرارية بل شرطاً لها إذا ما تمت إدارته بوعي تربوي. فالقدرة على تدويب التناقضات داخل مشاريع جماعية أوسع تجعل من التنوع قوة دافعة للاستمرارية، لا عامل تفكك.
 
و) الرعاية والتكوين المستمر:
لا يمكن أن تستمر طاقات الأفراد ما لم تجد طريقا للتجدد والتطور. فالتكوين المستمر يفتح أمام الأعضاء إمكانيات للنمو، ويُبقيهم في حالة حافزية.
 
2- العراقيل التي تهدد الاستمرارية
إذا كانت الاستمرارية غاية نبيلة، فإن الطريق إليها محفوف بعراقيل تهدد دينامية الجماعة وتضعف الفاعلية والإنتاجية، ومن أبرزها:
أ) القيادات السامة:
حين تتحول القيادة إلى سلطة قمعية تُقصي المختلف وتفرض الولاء الأعمى، تصبح التنظيمات طاردة لأعضائها. هذه القيادات تقتل روح الانتماء وتحول الأفراد إلى منفذين بلا روح.
 
ب) البيروقراطية المفرطة:
الإجراءات حين تتحول إلى غاية في ذاتها، تخنق المبادرات وتذيب الحماس. البيروقراطية لا تحافظ على الاستمرارية بل تُفرغها من معناها.
 
ج) القوانين الأساسية الجامدة:
كثيرا ما تتحول القوانين الداخلية إلى قيود تُكبل الإبداع بدل أن تطلقه، وتُعرقل العطاء الفردي والجماعي بدل أن تُنمّيه. فحين تُصاغ القوانين بشكل براغماتي يحد من حرية المبادرة ويقتل الكفاءات ، فإنها تُحوّل التنظيم إلى فضاء لتنامي التسلط بدل تكريس الديمقراطية، وتُضعف استمرارية الأفراد وتماهيهم مع المشروع.
 
د) غياب الشفافية:
الغموض في القرارات والموارد يولد الشك ويقوض الثقة. وحيث تنعدم الثقة، تنهار الاستمرارية.
 
هـ) تغليب النتائج على الاعتبار الإنساني:
أخطر العراقيل على الإطلاق حين يُعامل الفرد كوسيلة تُستهلك لتحقيق غايات خارجية، يصبح التنظيم فاقدا لجوهره.
 
3- نتائج تجاهل الاعتبار الإنساني:
حين يتم تجاهل البعد الإنساني داخل التنظيمات، تبدأ أعطاب خطيرة في التراكم. 
أولها استنزاف في الموارد البشرية، إذ يشعر الأفراد بالغضب والخيبة، فيغادرون التنظيم بما حملوا من تجربة وكفاءة، تاركين وراءهم فراغاً يصعب تعويضه. 
 
وثانيها تنامي ظاهرة "مناضلي out put"، وهم أولئك الذين يُقصَون أو يُهمَّشون داخل القنوات الرسمية، فينقلون معاركهم إلى الخارج ويبتكرون فضاءات بديلة للتعبير عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو المبادرات عن بُعد.... 
وهكذا يتحول التنظيم إلى ساحة نزيف مزدوج: خسارة لفعل الأعضاء من الداخل، وتنام لخطاب احتجاجي معارض من الخارج، يُفقده توازنه ويشوّه صورته العمومية.
 
4- البدائل الممكنة للحفاظ على استمرارية قوية
لتحصين الاستمرارية، لا بد من تبنّي بدائل تُعيد الاعتبار للإنسان باعتباره قلب المشروع. 
أول هذه البدائل تكمن في : 
- فتح حلقات شفافة  للتفكير الجماعي  التي تمنح لكل أفراد التنظيم القيادة وعموديا  فرصة للتعبير الحر والمشاركة في صياغة التوجهات وخطط العمل  المستقبلية.   
 
- اعتماد سياسات للرعاية والدعم النفسي والمعنوي، تُشعر العضو بأنه محمي ومحتضن داخل الجماعة. 
- توزيع المسؤوليات بشكل عادل وضمان التناوب على المهام آلية لتجديد الدماء وتوسيع قاعدة الانخراط. 
- تبنّي ثقافة التكوين المستمر والمواكبة الفردية يضمن أن تظل الطاقات متجددة ومتحفزة من داخل الدائرة 
- الإيمان بثقافة المشروع بدل الارتهان للفكر الماضوي أو اجترار التجارب السابقة.
- ابتكار رؤى وخطط عمل واقعية، تُناقَش داخل فضاءات جماعية نقدية، لتجعل من التنظيم طرفاً فاعلاً في حل مشاكل المجتمع الراهنة. 
- تشجيع الحوار والحميمية داخل العلاقات التنظيمية مما يُقوي الثقة
- خلق قنوات ولجان تواصلية يساهم في تقليص الهوة بين القيادة والقواعد.
- تفادي العلاقات الفوقية و المسافات والتصنيفات التي تذكي التراتبية وتقتل روح الجماعة. 
- تشجيع الكفاءات والإبداع والفكر النقدي. فالاختلاف والتحرر لا يشكلان خطراً على التنظيم، بل يمثلان شرطاً لدوامه وتجدده.
 
5- نحو استمرارية تقدمية
الاستمرارية التي تستحق أن ندافع عنها ليست تلك التي تُرفع كشعار فارغ لتبرير البقاء، بل هي التي تُؤسس على الكرامة، الحرية، والعدالة، لا على الاستمرار الأعمى. إنها استمرارية تُبنى على الاقتناع والوعي، لا على الانبطاح والشعارات.
 
وهنا يجب التوقف عند الفكرة الشائعة التي تقول إن الإيمان برسالة العمل الجمعوي يجعل الاستمرار فيه واجبا لا خيارا. فرغم ما تحمله من حماسة، فإنها تُخفي خطرا كبيرا: فهي تجعل الاستمرارية واجبا قسريا يُنكر حق الفرد في المراجعة، في النقد، وفي الانسحاب الواعي حين تتحول التجربة إلى فضاء خانق. فالإيمان الحقيقي لا يُقاس بالزمن وحده، بل بالفعل النقدي القادر على التصحيح والتجديد.
 
كما أن الفكرة التي تعتبر أن التنظيم مستمر بالفرد أو بدونه تُترجم في العمق نزعة لا إنسانية تعتبر العضو مجرد رقم قابل للاستبدال. إنها نظرة ميكانيكية تُنكر أن التنظيم لا يُبنى إلا بعرق وانخراط أفراده. وحينما تُقصي القيادة عضوا ظلما أو تعسفاً، يبقى الجرح في الجسد الجماعي، بينما الفرد يجد دائماً طريقه لأن "أرض الله واسعة"، فيغادر إلى فضاءات أرحب تحتضن طاقته قصد خلق آفاق جديدة.
 
إن الاستمرارية التقدمية ليست استمرارا بأي ثمن، بل استمرارا مشروطا بالكرامة والوعي والاعتراف المتبادل. فالمطلوب اليوم ليس استمرارا شكليا يُخفي الأعطاب، بل استمرارية إرادية تفتح المجال للنقد والمساءلة والتجديد، وتعتبر غياب أي فرد مناسبة للتفكير لا للتعامل معه ببرود أو لا مبالاة.
 
كما أن أي نقاش قانوني مثلا حول استمرارية المكاتب المسيرة، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، يجب أن يُبنى على نفس المنطق، بحيث تمزج معايير استمرار الأفراد  بين الاعتبار الإنساني للأعضاء، كفاءتهم، قدرتهم على الحفاظ على توازن التنظيم، ومدى حافزيتهم في الانخراط من أجل تفعيل واستمرارية المشروع والبرنامج التنظيمي المستقبلي. 

أما الأفراد الذين يبحثون عن الاعتراف والشرعية، فيربطون دائما استمراريتهم داخل القيادة محليا / جهويا ووطنيا  بنافذة صناديق الاقتراع بناءا على منطق  لغة المشروع والعمل الميداني والشركات...  وليس بأسلوب  الكولسة والاستقواء العددي وتفريخ المريدين ... 
 
في الأخير قد تنجح التنظيمات في تحقيق نتائج ظاهرية وتتباهى باستمراريتها الشكلية، لكنها إن فقدت إنسانيتها وحميمية علاقاتها فقدت جوهرها وفعلها المجتمعي.
 
 فالاستمرارية ليست في دوام البناية أو في تراكم الأنشطة وثبات الهياكل الرسمية، بل في صون الاعتبار الإنساني وضمان انخراط الأفراد عن قناعة ليكون لهم مكانا داخل الدائرة. 
 
إن الجماعة التي تستهين بغياب فرد أو تبرر إقصاءه ببرود أو تعتبره كأنه نكرة أو تشيطنه أو تعاديه، وتردد أن "التنظيم مستمر بالفرد أو بدونه"، هي جماعة تهرب من مواجهة جرحها الداخلي. 
 
فالاستمرارية الحقيقية لا تُقاس بقدرتها على عزل  المختلف، بل بقدرتها على احتضانه وتطويره.
الاستمرارية التي تستحق أن ندافع عنه اليوم هي تلك التي تنبض بالكرامة، المشاركة، العدالة، والاعتراف. 
وما عدا ذلك فليس سوى بقاء شكلي بلا روح، ينهار عند أول هزة حقيقية.