الساحة التي وقفت فيه لالتقاط الصورة، بقلب مدينة "تالين" Tallinn، لاتكتسي قيمتها من كونها قلب عاصمة إستونيا ونقطة التقاء أهم شوارع المدينة: Pärnu,Narva,Mere Puiestee. ولا ترتبط أهميتها بكونها ملتقى خطوط الترامواي الأربعة وملتقى خطوط الحافلات فحسب، بل تكتسي هذه الساحة رمزيتها من كونها النقطة التي قررت سلطات إستونيا جعلها "الكيلومتر صفر" (Kilomètre zèro)، لا حتساب الكيلومترات الفاصلة بين إستونيا وباقي دول العالم من جهة، وكذا اعتبارها المنطلق لردم الحقبة السوفياتية، لإعادة تأهيل وتهيئة العاصمة مع تحديد وظائف جديدة لمدينة "تالين" تقطع مع الماضي العسكري في الحقبة السوفياتية من جهة ثانية.
فحين كانت إستونيا تحت حكم الاتحاد السوفياتي، (من 1940 إلى الاستقلال عام 1991)، كان موقع "الكيلوميتر زيرو" مجرد مدخل كئيب يقود نحو المعامل المختصة في صناعة قطع الغيار للمعدات العسكرية السوفياتية وإلى مستودعات تخزين الدخيرة الحربية، كما كانت الضاحية المجاورة تخضع لتوجهات هذه الصناعة الحربية السوفياتية، عبر تكثيف المجمعات السكنية لاستقبال العمال والمرحلين من مناطق بعيدة في الاتحاد السوفياتي.
لهذا، وبعد انهيار جدار برلين عام 1989 وما تلاه من تفكك الاتحاد السوفياتي، أعلنت إستونيا استقلالها عام 1991.
الاستقلال لا يتجسد بالراية أو بالعملة وبطابع البريد وبالجيش فقط، بل كذلك بالرؤية المجالية لإعداد تراب إستونيا. مما يفسر تمسك سلطات إستونيا فور إعلان الاستقلال، بالحرص على إرجاع "الهوية الإستونية" للعاصمة "تالين".
عبد الرحيم أريري بالواجهة البحرية الجديدة بعاصمة إستونيا
استرجاع مدينة تالين "للهوية الإستونية"، تطلب رسم ستة مرتكزات:
أولا: إحياء المجد القروسطوي للعاصمة وربطها بأوربا الشمالية أولا، تم بباقي أوربا الغربية لاحقا، على اعتبار أن ميناء مدينة "تالين" كان يعد من أهم موانئ التجارة منذ القرون الوسطى إلى أواسط القرن 18.
ثانيا: لإحياء هذا المجد كان لابد من رد الاعتبار للمدينة العتيقة بالعاصمة وترميم كل الأسوار والمآثر والمباني التاريخية وتبليط الأرصفة وتزيين المطاعم والمحلات التجارية.
ثالثا: ربط المدينة بالبحر، خاصة وأن سكان "تالين" حرموا من البحر طوال خمسة عقود بسبب تمركز البحرية السوفياتية على طول ساحل العاصمة.
رابعا: منح العاصمة "تالين" تذكرة ولوج نادي المدن البيئية المستدامة، وذلك بالتعجيل بإنجاز المنتزهات والحدائق ومسالك الدراجات الهوائية وربط كل الأحياء بالترامواي( 4 خطوط) وشبكة محكمة بالحافلات الجيدة والمريحة.
خامسا: إدخال مدينة "تالين" في الرقمنة وتوظيف كل المعارف التكنولوجيا وآخر صيحات الابتكار التقني في تدبير مرافق المدينة ( وثائق إدارية، نقل، ضبط السقي والإنارة العمومية، السلامة الطرقية،...إلخ) لتجويد مستوى رفاهية العيش الحضري.
سادسا: ردم المجمعات السكنية ذات القبح المنظري التي بنيت في الحقبة السوفياتية، مع تحديد وظيفة جديدة للمنطقة: "مالية وخدماتية" على أنقاض البنايات المهدمة، وهو ما أثمر الحي المالي الموجود خلف فندق viru قرب الساحة.
الآن وبعد مرور 30 سنة تقريبا، هاهي إستونيا تجني ثمار سياستها الحضرية العقلانية والمفكر فيها، بدليل أن مدينة "تالين" زارها في سنة 2024 حوالي 3،5 مليون سائح أجنبي، علما أن سكان المدينة لا يتجاوز عددهم 450.000 نسمة! ..