مغربيات صنعن التاريخ: فاطمة الفهرية: مشيدة جامع القرويين (2)

مغربيات صنعن التاريخ: فاطمة الفهرية: مشيدة جامع القرويين (2)

هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني.

ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا.

- فاطمة الفهرية: مشيدة جامع القرويين

لم يخطر ببال فاطمة أم البنين، المرأة القيروانية، وهي تؤسس جامع القرويين، ابتغاء مرضاة لله، أنها ستساهم في بناء صرح منار وهاج شكل عبر مساره التاريخي «قبلة لرجال الورع والتقوى يؤدون فيه صلواتهم ويرشفون في جنباته من الفيض الإلهي،... وبيتا للعلم ومعقلا لرجالاته البارزين في مجال التاريخ والفقه والحديث والفلسفة والأدب، ممن كانوا يترددون في رحابه ملقنين أو دارسين».

ففاطمة الفهرية، ابنة أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري، (فقيه مهاجر من إفريقية.. تونس)، لم يكن بناؤها لمسجد القرويين ابتغاء التقرب من أصحاب التجلة على حد تعبير ابن خلدون، ولا رغبة في استمالة مريدين محتملين يرفعونها إلى مقام الصلحاء والأولياء، ويروجون عنها خوارق يصعب على دوي الألباب تصور حدوثها، ولا رغبة في اتخاذ بناء المسجد مطية لجمع تبرعات تصرف في غير مقاصدها.
فبناء أم البنين لمسجد القرويين «كان بمثابة كرامة صوفية بل من قبيل المأثور الخارق الوارد على الألسن...»، يقول الأستاذ عبد الغني بن مغنية.

"فقد ورثت فاطمة الفهرية، وهي امرأة مباركة صالحة، حسب صاحب القرطاس، من زوجها وأختها، مالا جسيما حلالا طيبا ليس فيه شبهة لم يتغير ببيع ولا شراء، فأرادت أن تصرفه في وجوه البر وأعمال الخير، فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه في الآخرة، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، يضيف ابن أبي زرع".

حرص فاطمة أخت مريم، مؤسسة مسجد الأندلس، على عدم تلويث أجر ثوابها، دفعها إلى شراء موضع القرويين من رجل من هوارة، ودفعت الثمن من حصتها من الإرث المذكور الذي كان مالا خالصا لا تشوبه أية شائبة، كما أكدت ذلك مختلف المصادر التاريخية الإسلامية.

ورغبة من ابنة القيروان  في تحصين أجر ثواب بناء المسجد، فلم تدخل فيه من تراب وماء غيره، «فبنته بالطابية والكدان، وأخرجت منها التراب والحجر والرمل الأصفر الطيب، فبنت به الجامع المذكور كله حتى تم، ولم تدخل فيه من تراب غيره، وحفرت البئر التي في الصحن، فكان البناءون يسقون منها الماء لبناء الجامع المكرم حتى فرغ من بنائه، ولم تصرف فيه سواه احتياطا منها وتحريا من الشبهة»،  يقول صاحب القرطاس.

ففاطمة الفهرية تشكل بصدق إيمانها وإدراكها القوي لعلاقة المخلوق بخالقه دون وساطة، إذ لا رهبانية في الإسلام، نموذجا للمؤمنات الصادقات العفيفات الطاهرات المجلات لقدسية الوطن ورحابته واتساع أحضانه لكل بني الإنسان دون تمييز...

فطوال فترة بناء المسجد التزمت أم البنين الصوم، وعند الانتهاء من بنائه، أمته وأقامت به صلاة الشكر على ما وفقها الله إليه، ولم تجمع مريدين ولا شيعا يحملون بيارق وشارات تمجد إنجازاتها وانتصاراتها على بني جلدتها.