أريري: هلسينكي.. في قلب "ساندويتش" فنلندا

أريري: هلسينكي.. في قلب "ساندويتش" فنلندا عبد الرحيم أريري بسطح المركب التجاري sokos بهلسينكي، عاصمة فنلندا
ثلاثة أسباب قادتني لالتقاط صورة من سطح المركب التجاري والفندقي Sokos، المطل على ساحة المحطة بمدينة هلسينكي (عاصمة فنلندا)، وهي أسباب تسمح باستقراء تاريخ فنلندا الموسوم بالاستعمار طوال أزيد من ستة قرون، تارة تحت سيطرة الاحتلال السويدي التي دامت حوالي 500 عام (من 1323 إلى 1807)، وتارة تحت سيطرة احتلال قياصرة روسيا الذي دام 108 سنة (من1807 إلى 1917)، الأسباب هي:
 
أولا: هاته الساحة تعد من بين "أقدس" القطع الترابية عند الفنلنديين، لأنها الساحة التي ترمز للتحرر من الاحتلال. إذ ما أن حازت فنلندا استقلالها عن روسيا عام 1917، حتى أعطيت الإشارة لبناء محطة سككية ضخمة بهلسينكي لجمع "أشلاء التراب الفنلندي" ككل، وربط المدن والقرى بالعاصمة (المحطة دشنت عام 1919)، بالنظر إلى أن فنلندا، ومنذ احتلالها من طرف القيصر "نيكولاي الأول"، ظلت موانئ فنلندا وطرقاتها توظف لتسمين روسيا على حساب التراب الوطني الفنلندي. من هنا القرار الأول الذي تم اتخاذه من طرف السلطات الفنلندية، تجلى في تمكين فنلندا من استعادة حريتها في تحديد الوظائف الاقتصادية لكل منطقة، ولم يكن يتأتى ذلك دون توفير بنية تحتية سككية قوية تنقل البشر والسلع بكثافة وبسرعة بين مختلف الجهات، ليكون لفنلندا موقع قدم في الملاحة البحرية ببحر البلطيق.
 
ثانيا: محطة القطار المركزية بهلسينكي، تعد تحفة سككية ومعمارية على المستوى العالمي، لا يضاهيها  في البهاء إلا محطة السكك بنيويورك. بدليل أن محطة السكك بهلسينكي اختيرت عام 2013 كأجمل محطة على المستوى العالمي من الناحية الهندسية.

ورغم جمال المحطة و"وقار بنايتها"، والتوفق في ربطها بشبكة ذكية من خطوط الحافلات والترامواي والميترو والباركينغ، فالذي جذبني إليها شخصيا هو كثافة التراقصات اليومية بها. ففي كل يوم يتنقل بمحطة هلسينكي 200 ألف مسافر( في الصيف وأعياد الميلاد وأعياد رأس السنة ترتفع النسبة)، يتنقلون في 100 قطار للربط الوطني، و850 قطار للربط الإقليمي والجهوي. أما إذا أدمجنا زوار المركز التجاري ومحلات التسوق والمطاعم والمقاهي المتعددة الموجودة داخل المحطة وبباطن أرضها، فالعدد يتجاوز بالتأكيد 300 ألف فرد في اليوم( ما يعادل سكان مدينة مكناس تقريبا). والأجمل أن كل هذه التدفقات البشرية تتم في مساحة لا تتجاوز  6 هكتارات وبسلاسة و"في نظام وانتظام"، بدون فوضى أو عشوائية أو عرقلة أو إزعاج.
 
ثالثا: زاوية اختيار الصورة تسمح برؤية الكنيسة اللوترية (أو الكنيسة البيضاء) الموجودة في المدينة القديمة في ساحة Senat، وهي الكنيسة التي بنيت بين سنتي 1830و 1852، في عهد القيصر نيكولاي الأول. فرغم أن الروس يتبعون الكنيسة الأورتوذكسية، فإن القيصر نيكولاي الأول ينحدر من أسرة "رومانوف" التي اعتنقت المذهب الكنسي الألماني اللوتري. 

لكن ليس هذا هو ما يفسر ارتباط الفنلنديين بالكنيسة اللوترية البيضاء، بل لكون هذه الكنيسة استعملت آنذاك من طرف القيصر الروسي لسحق الفنلنديين وإطلاقه لحملة لفرض اللغة الروسية بالقوة، كلغة التخاطب بالشارع والمجتمع والمرافق والتجارة، ومحو كل أثر للغة الفنلندية. من هنا رمزية هاته الكنيسة وما تحمله من ندوب وجراح في الذاكرة الجمعية للفنلنديين، الذين واجهوا حملة القيصر الروسي بالتشبت القوي بلغتهم وبتوريث حبها والتعلق بها لأبنائهم وعدم التفريط فيها. 

الدليل على ذلك أن فنلندا ما أن استقلت عن روسيا عام 1917، حتى بادرت إلى محو كل أثر للغة الروسية من واجهة المحلات التجارية والإدارية ومن الفضاء العام، وعوضتها باللغة الفنلندية وباللغة السويدية، لغة المستعمر الأول ولغة الباني الحقيقي لمدينة هلسينكي، ملك السويد "غوستاف فاسا" Gustave Vasa، الذي أمر ببناء هلسينكي عام 1550 لمنافسة مدينة تالين Tallin في الملاحة التجارية ببحر البلطيق (عاصمة إيستونيا التي كانت آنذاك تحت حكم الجيرمان)، وكذا وفاء للطائفة السويدية بفنلندا، بالنظر إلى أن اللغة السويدية هي اللغة الأم لحوالي 6% من سكان فنلندا.
 
وصدق فعلا، من قال إن فنلندا تعد " دولة ساندويتش "Etat-Sandwich"، إذ ظلت هاته الدولة الصغيرة (5.650.000 نسمة)، تحت إبط قوتين حدوديتين: روسيا شرقا والسويد غربا.