في مقهى شعبي بأحد أحياء الرباط، الكراسي البلاستيكية متقابلة، طاولة صغيرة عليها أثر جلسة تفرقت على التو، وأصوات الزبائن متداخلة كأنها سمفونية عفوية.
يدخل رجل بملابس بسيطة، يغسل وجهه بابتسامة هادئة، ثم يرفع صوته بالتحية:
«السلام عليكم»
لا يوجّهها لأحد بعينه، لكنها تهبط على الجميع كقطرة مطر على أرض عطشى.
يرد بعضهم، يكتفي آخرون بإيماءة الرأس، ويظلّ الصمت يردّد أصداء التحية في فضاء المقهى قبل أن يعود كل شيء إلى حاله.
يجلس الرجل في ركن قصي، ينادي على «قهوة نص نص»، ويشرع في تأمل وجوه الناس.
هكذا هو المجتمع المغربي: تحية تُطلق في الهواء كإعلان عن الحضور، كتصريح ضمني يقول «أنا واحد منكم»، حتى لو كان غريباً لا يعرف أحداً.
في زقاق ضيق قرب عمارة قديمة، يقف ثلاثة رجال يتحدثون عن هموم الحياة، الأسعار، الطقس، وربما عن مباراة الأمس.
يمر رجل لا يعرفهم ولا يعرفونه، ومن غير أن يتوقف، يلقي السلام ويكمل طريقه.
لا يسأل عنهم ولا يعرف أسماءهم، لكنه لا يقوى على المرور صامتاً. الصمت في هذا السياق كأنه سبة، أما السلام فهو جسر صغير يُرمى بين الغرباء.
وفي قاعة الانتظار بمؤسسة عمومية، المقاعد متجاورة، أعين الناس شاردة في هواتفهم أو عالقة في الفراغ.
يدخل رجل خمسيني، يخطو خطوات مترددة، ثم يطلقها مدوية:
«السلام عليكم»
يرتفع رأس أحد الجالسين، يردّ بخجل، تتبعه أصوات أخرى، فينتشر دفء اللحظة في القاعة.
دقائق بعد ذلك ينصرف الرجل، وقد لن يلتقي بأحد منهم مجدداً، لكن أثر التحية يبقى معلّقاً في الذاكرة، كأنه خيط رفيع يربط بين غرباء جمعهم المكان والوقت.
هذه الظاهرة ليست مجرّد عادة، بل هي طقس يومي يرمم الشرخ الذي قد يخلّفه صخب المدن وتباعد الناس.
" *السلام عليكم"* في المغرب ليست مجرد كلمة، إنه إعلان عن الانتماء إلى نفس الفضاء، إلى نفس اللحظة، إلى نفس الوطن.
يقول الكاتب المغربي إدريس الخوري في إحدى قصصه: «كلمة السلام تطفئ غربة المكان، وتعيدك إلى دفء الناس.»
نجيب محفوظ كان سيرى في هذه التفاصيل تجسيداً لحياة الحارة، حيث لا مكان للغريب الصامت.
أما المنفلوطي لربما كتب: «السلام هدية لا تكلف صاحبها شيئاً، لكنه يزرع في قلوب الآخرين طمأنينة لا تقدّر بثمن.»
هكذا، يصبح السلام أكثر من تحية، يصبح شعيرة اجتماعية، بل فعل مقاومة صامتة ضد العزلة، دعوة غير معلنة إلى المشاركة في لحظة إنسانية عابرة، لكنّها صادقة.