حنان جمالي: حين يُختزل العلم في الراتب.. يضيع جوهره من تأملات مشروع "فطرة"

حنان جمالي: حين يُختزل العلم في الراتب.. يضيع جوهره من تأملات مشروع "فطرة" حنان جمالي
منذ الصغر نسمع الجملة ذاتها تتكرر: "ادرس كي تضمن مستقبلك". جملة بديهية ومفروغ منها، تقال بحسن نية، لكنها مع التكرار تحولت إلى القاعدة التي تُختزل فيها قيمة العلم كلها. وهكذا ترسخت في أذهان الأطفال والشباب فكرة أن الدراسة ليست هدفا في ذاتها، بل مجرد وسيلة للحصول على عمل وراتب.
 
لكن هذا الخطاب ـ على بساطته ـ خطير في أثره. لأنه يزرع في النفوس أن قيمة العلم مرهونة بالوظيفة، وأنه مجرد وسيلة للرزق. فإذا وجد الشاب طريقا آخر أسرع أو أكثر دخلا، فلن يرى أي معنى لمتابعة الدراسة أو الصبر على المعرفة. وهكذا يُفرَّغ التعليم من جوهره: من غذاء للعقل ووقود للخيال، إلى مجرد بطاقة عبور نحو راتب شهري.
 
وحين يترسخ هذا المنطق في المجتمع، لا يقتصر أثره على الأفراد، بل يتضاعف عبر الخطاب الأسري والتربوي. فكثير من الأهل، بدافع الخوف على مستقبل أبنائهم، يمارسون ضغطا نفسيا هائلا منذ الطفولة، وكأن الشهادة هي الملاذ الآمن الوحيد للكرامة. فيُربط مصير الطفل بمعدّل أو امتحان، حتى تتحول الامتحانات الإشهادية إلى شبح يطاردهم: قلق، اكتئاب... وقد نسمع أحيانا عن حوادث مأساوية صادمة تفسر حجم هذا الضغط غير المحتمل. وهكذا يصير العلم في نظر بعض الأبناء سجنا يقيّدهم بدل أن يكون فضاء يفتح لهم الآفاق.
 
وما يزيد المفارقة وضوحا أن الواقع نفسه أثبت أن الشهادة لم تعد الطريق الوحيد للرزق. فكم من أبواب فُتحت بمهارات عملية أو بتعلم ذاتي، وكم من قصص نجاح بدأت بخبرة صغيرة أو شغف حقيقي بعيدا عن القاعات الدراسية. ومع ذلك، ما زال الخطاب الأسري والاجتماعي يرسّخ في الأذهان أن المستقبل لا يضمنه إلا الامتحان والشهادة، فينشأ جيل ممزق بين ما يراه بعينيه وما يُفرض عليه سماعه كل يوم.
 
لكن الحقيقة أن جوهر التعلم لا يقف عند نيل شهادة أو اجتياز امتحان، بل يتجلى في أثره العميق على العقل. فالتعلم يدرب الذهن على الصبر أمام المسائل المعقدة، ويقوي القدرة على الربط بين الأفكار، ويصقل سرعة البديهة في مواجهة المواقف. هو الذي يعلمنا أن نجد حلولا بديلة حين تنغلق الطرق، وأن نتحمل الضغوط دون أن نفقد اتزاننا. حتى الحفظ ـ الذي قد يبدو مجرد تكديس للمعلومات ـ له دوره في تقوية الذاكرة وتنشيط الدماغ. إن كل تمرين ذهني يخوضه الطالب اليوم، إنما يترجم لاحقا إلى قدرة أوسع على مواجهة تحديات الحياة وصناعة قرارات أعمق.
 
المشكلة إذن ليست في حرصنا على مستقبل أبنائنا، بل في تضييق تعريف المستقبل إلى ورقة ودرجة فقط. حين يُختزل العلم في الوظيفة، نخسر قيمته الكبرى: أنه رصيد للحياة، وطاقة للتجديد، وأفق يحرر الإنسان من هشاشته.
 
إنها دعوة لكل الآباء أن يخففوا من حدة ربط مستقبل أبنائهم بالشهادات وحدها، وأن يحرروا أبناءهم من ثقل هذا الضغط النفسي. دعوة لأن نعيد للعلم قيمته الأولى: أن يكون غذاءً للعقل، وبوصلة للحياة. فالمجتمع الذي يضيّق آفاق المعرفة في مسار مفروض يفقد القدرة على الابتكار والنهضة، أما المجتمع الذي يغذي عقوله بالعلم فتبقى أبوابه مشرعة للتجديد مهما تبدلت الظروف وتعددت طرق العيش.
 
فالوظائف قد تتبدّل، والفرص قد تتعدد، لكن العقل إذا لم يُغذَّ بالعلم… يبقى فارغا، عاجزا عن حمل صاحبه أينما اتجه.