سفيان الحتاش: المثقف اليساري وتعثر مشروع التغيير.. قراءة نقدية

سفيان الحتاش: المثقف اليساري وتعثر مشروع التغيير.. قراءة نقدية سفيان الحتاش
يستدعي منا مقاربة هذا الموضوع الاشكالي طرح مجموعه من الاسئلة التي هي بمثابة مفاتيح لمحاولة فهم الازمة البنيوية التي يعاني منها اليسار الجذري الذي قدم كثير التضحيات والاثمان في سبيل تحقيق مشروعه التغييري المنشود والذي وصل اليوم الى الطريق المسدود. مما يستدعي منا تقديم قراءة تحاول ملامسة الجذور الفكرية والحضارية للمشكلة. فماهو  هذا المثقف الثوري اليساري الذي سيقوم بإعادة تصويب بوصلة المجتمع بعد هذا التراجع والانهيار المروع على جميع الأصعدة التي تعاني منها مجتمعاتنا؟ ماهي مميزات وصفات وهوية هذا المثقف وهل يملك الرؤية الفكرية والحضارية التي تؤهله  لإنجاز هذه المهمة المصيرية؟ 

 في تقديري ان  قضية المثقف حساسة جدا في تعريفها، وعلى درجة كبيرة من الأهمية على الصعيدين الاجتماعي والحضاري، وقد طرحت هذه القضية في العالم منذ القرن السابع عشر  حيث تشكلت في أوروبا طائفة تسمى طبقة المثقفين، وبعد القرن التاسع عشر أخذت هذه الطائفة تشق طريقها إلى الدول غير الأوروبية من أفريقية وآسيوية وأميركية لا تينية خاصة بعد ظهور التوجه الماركسي الذي حمل شعار مناصرة الطبقة العاملة وتحريرها من الاستغلال الراسمالي الطبقي وبعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا وتشكل الإتحاد السوفييتي بزعامة لنين ظهرت صيغة جديدة في الماركسية بأسم الماركسية اللنينية اصبحت مناصرة لحركات التحرير الوطني (بالرغم من الموقف الملتبس للماركسية من الحركة الإستعمارية الاروبية بسبب التركيبة الايديولوجية للماركسية نفسها)، وذلك باسمها وخصائصها وسماتها التي تشكلت بها في أوروبا، وهنا يجب التأكيد على قضية جوهرية وهو انه اذا لم يعرف المثقف نفسه، وما لم يعرف المثقف  مجتمعه، فلن تتيسر له مهمة التغيير بل يستحيل ان يحقق مشروعه الثوري والحضاري، ولن يستطيع أن يقوم بالرسالة التي يدعيها لنفسه، أي أنه على المثقف- أينما كان - أن يعلم الخصائص التي تميزه، وفي أية ظروف تاريخية واجتماعية نشأ، وإلى أين تمد خصائصه هذه جذورها.؟

 وبعد أن يقوم المثقف بتحليل ذاته يستطيع أن يعرف مجتمعه، ويسلك الطريق الذي ينبغي له أن يسلكه، ويسير في الطريق الذي ينبغي له أن يتقدم فيه.    لدينا الآن ونحن في الربع الاول  من القرن الواحد العشرين شريحة أو طبقة تسمى شريحة المثقفين اليساريين الذين نعتبرهم الممكن التاريخي ولكن هذه الفئة لازالت حبيسة لنموذج ايديولوجي جامد تم استدعاؤه ونقله بالكامل من تجربة وسياق اجتماعي وتاريخي معين ولم يخضع لأي تكييف مع مجتمعها وهويتها هذا افترضنا أن الفكر يمكن ان يكيف مع ذات وتاريخ معين والا فان التعريف العلمي للفكر هو ان تفكر بطريقة جديدة دون قطائع ابستمولوجية طبعا. من هذا المنطلق  وبالضرورة لا بد من أن نقوم تلقائيا وقبل كل شي من العودة إلى ذواتنا الى ثقافتنا الى هويتنا لصياغة تموذجنا الثوري الحضاري لبناء النموذج الذي يلائمنا ضمن جغرافية الكلمة ضمن ما يسميه مالك بن نبي معادلة الحضارة التي تستمد حركتها وقوتها من الدين  ان الدين شئنا أم ابينا له دور حضاري فعال، وأن الفكرة الدينية هي منشأ كل حضارة ( وهذه الفكرة لا يقول بها فقط المفكرين المسلمين ولكن لها جذور في جزء كبير الانتاج الحضاري البشري).

ان نقد واقع وحالة  ما يسمى المثقفين الثوريين في المجتمعات غير الأوروبية من أفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية - رغم بعض الخصوصية لنخب أمريكا اللاتينية- هي للاسف نسخة مقلدة تماما عن شريحة المثقفين في أوروبا وبلا زيادة أو نقصان، ومن هنا لا يمكن أن نعرف أنفسنا، وندرك نقاط الضعف والقوة فينا ما لم نقم بتحليل (النسخة الأصلية) لنرى  في أية ظروف تكونت شريحة المفكرين في أوروبا، وفي ظل أية مؤثرات تاريخية واجتماعية ظهرت خصائصها الطبقية والنفسية والفكرية والعقائدية والروحية، والخلاصة أنه لا يمكن معرفة المثقف الآسيوي والأفريقي والعربي والامازيغي  إلا إذا عرفنا المثقف الأوروبي في البداية في شقه الحداثي التنويري في عصر النهضة وكذا نسخته الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذي تم استتساخه تعسفا على واقعنا الاجتماعي والثقافي وبما أن الاول أسس مشروعه على التحرر من الاستبداد الكنسي الكهنوتي الذي يعادي ويكبل العقل فإن الثاني اعتبر الدين انعكاس لبنية تحية ( المادية التاريخية) استعمل من طرف الطبقات الحاكمة لتبرير الاستغلال ولكن السؤال الكبير والاستراتيجي الذي يعترضنا هو ماهو طبيعة الدين الذي كبل العقل وعاد العلم واضطهد الفكر في مرحلة القرون الوسطى واي دين كان افيونا للشعوب وهل فعلا كان كان الدين تاريخيا أداة للتخدير وتبرير الوضع القائم ؟ وهل يوجد هكذا تدين نمطي بهذا المعنى عبر التاريخ؟ ثم إذا انطلقنا بالتحديد من واقعنا وتاريخينا وتجربتنا المغربية الأمازيغية ماهو الدور الذي كان للدين في البناء الحضاري للأمة المغربية وفي انتاج نماذج من المقاومة؟.

ان رسالة المثقف اليساري لا يجب ان تكون محاربة للدين الذي صنع حضارة عملاقة انتجت علوما ونهضة علمية وانجبت علماء وفلاسفة شكل قاعدة أساسية لتقدم البشرية وحتى لنهضة الغرب عبر جسر الحضارة المغربية الأندلسية وافرزت نماذج من المقاومات ابهرت العالم ، نعم يوجد جانب مظلم وظلامي في الفكر الديني الاسلامى الكهنوتي وظف تاريخيا من طرف الاستبداد للهيمنة السياسية والاقتصادية ولكن هذا ليس هو الدين الذي جاء به الانبياء وسار على نهجه القادة العلماء وقادة عظام اسسو لنهضات ونماذج حضارية راقية هيات الشروط لتقدم حضاري لا يمكن انكاره. ان رسالة اليسار باعتبارها رسالة ثورية يجب أن تكون بتعبير المفكر الراحل حسن حنفي هي "محاربة للدين من أجل إحياء الدين" وأنّها حمل لمشعل حركة الأنبياء الثورية التي لم تتحقق تاريخيا. وفي هذا الصدد يؤكد أنّ الرسالة التي حملها المفكرون في عصر التنوير وصراعهم مع دين القرون الوسطى والرجعية والتسلط هي نفسها الرسالة التي أخذها الأنبياء على عاتقهم، مع الاختلاف في المضامين إذ لم يستطع المُفكر الغربي أن يميز بين الدين الحق والدين الزائف، فضم كل الأديان في خانة واحدة واعتبرها مظهرا من مظاهر التخلف والتحجر. لكن المرحوم حسن حنفي يدعو إلى ضرورة التمييز بين دين الأنبياء والرعاة والمظلومين والمحرومين ودين الملأ والمترفين والحكام، يقول في ذلك: "كيف يمكن الحكم على الدين الذي صنع أبا ذر بنفس الحكم الذي نحكمه على الدين الآخر الذي جاء ليبقى على كظة الظالم وسغب المظلوم والذي كان مسبباً للفقر وحامياً له؟". إن حسن حنفي وغيره من المفكرين في هذه المقاربة ينتقل من السماء إلى الأرض بشكل سلس لكن بغير ضابط منهجي استقرائي، فدين التوحيد هو الدين الحق؛ ودين الطبقة المظلومة والمحرومة هو دين التوحيد.
 
 ملحوظة:
هذه المقالة هي اقرب الى  تدوينة وخاطرة فكرية تهدف إلى اغناء النقاش العمومي واطلاق دينامية معينة في موضوع نعتبره جوهريا لارساء نقد بناء لتجربة اليسار الجذري وهي مقالة لا تغني عن الطرح الاكاديمي العلمي للقضية.