السملالي: الكذب الأكاديمي.. أزمة نزاهة قبل أن تكون أزمة شهادات

السملالي: الكذب الأكاديمي.. أزمة نزاهة قبل أن تكون أزمة شهادات عبد الحي السملالي
“قول الحقيقة ليس رفاهية، بل واجب ديونتولوجي يحمي الثقة العامة. أما الشهادة الأكاديمية فليست تاجًا يُعلَّق على الجدار، بل تكليف يبدأ يوم نيله لا يوم التفاخر به.”
 
في عالمنا العربي ما زلنا نتعامل مع الشهادات العليا وكأنها غاية الغايات: يحصل المرء على الدكتوراه ثم يظن أنه بلغ القمّة، بينما الحقيقة أن الدكتوراه هي نقطة البداية لا النهاية. هي إعلان أهلية لدخول ميدان البحث العلمي، لا تصريح بالتوقف عن التفكير. الكارثة حين يتحول اللقب إلى “وسام اجتماعي” يعلّق على بطاقة التعريف، بينما صاحبه لم ينتج بعد ذلك سطرًا واحدًا من معرفة جديدة، ولم يقدّم للمجتمع ثمرة علمه. نعرف جميعاً أمثلة لأساتذة جامعات حصلوا على الدكتوراه منذ عقود، ولم ينشروا بعدها بحثاً واحداً، ومع ذلك يملؤون وسائل الإعلام بلقبهم، وكأن اللقب يغني عن الإنتاج العلمي.
 
فضيحة سيباستيان لكورنو لم تعد مجرد خبر عابر عن وزير بالغ في تزيين سيرته الذاتية، بل أصبحت مرآة تكشف خللاً أخلاقياً أعمق: شخصيات في مواقع المسؤولية تكذب ببرود على الناس، تزيّف شهاداتها، ثم تتصرّف وكأن شيئاً لم يكن. هذه ليست مسألة أكاديمية هامشية؛ إنها مسألة ثقة، مسألة نزاهة، ومسألة احترام للعقل العام.
 
واجب قول الحقيقة
 
من منظور ديونتولوجي، الصدق ليس مجرد فضيلة شخصية بل واجب عام. المسؤول السياسي أو الديني لا يملك رفاهية الكذب بشأن سيرته الذاتية، لأن هذه السيرة هي الأساس الذي يمنحه شرعية ممارسة السلطة أو الخطاب. حين يزيّف المسؤول شهادته، فهو لا يخرق بروتوكولاً إدارياً بل ينقض العقد الأخلاقي بينه وبين الجمهور.
 
الخداع الممنهج
 
* في السياسة: لكورنو مثال صارخ. لسنوات كانت السير الرسمية تضع لقب “ماستر في القانون العام” في سيرته، رغم أن هذا الماستر لم يُنجز قط. لم يُصحّح الأمر إلا بعد أن كشف الصحفيون الحقيقة. أي نزاهة تبقى لرجل يتولى قيادة حكومة وهو غير قادر على قول الحقيقة عن نفسه؟
 
* في أوروبا: لا يختلف المشهد كثيراً في دول أخرى. شهدت ألمانيا مثلاً فضائح متكررة لوزراء استقالوا بعد كشف سرقات علمية في أطروحاتهم، مثل وزيرة التعليم أنيته شافان، ووزير الدفاع كارل-تيو دور تسوغوتنبرغ. هذه الاستقالات لم تكن شكليات، بل اعترافاً بأن الثقة العامة لا تُشترى ولا تُجمَّل.
 
* في الدين: بعض المسؤولين عن الشأن الديني في أوروبا يقدّمون أنفسهم على أنهم “دكاترة” دون أن يكونوا قد أمضوا يوماً في إعداد أطروحة علمية. بعضهم لم يتخطَّ البكالوريا. هذا تضليل باسم الدين، وهو أخطر لأنه يربط شرعية الكلام بقدسية زائفة، ويحوّل المنابر إلى أدوات كسب للهيبة والتأثير والتمويل.
 
البعد القانوني والأخلاقي
 
في عدة دول أوروبية، انتحال لقب أكاديمي أو تقديم معلومات مزيفة في الوثائق الرسمية جريمة يعاقب عليها القانون. لكن حتى حيث لا توجد متابعة قضائية، يبقى الواجب الأخلاقي قائماً: الحقيقة ليست خياراً سياسياً بل حق للمجتمع.
 
النتيجة
 
الكذب الأكاديمي ليس تفصيلاً. إنه تقويض بطيء لجسر الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين العالم والمستمع. وعندما تُكتشف الحقيقة ينهار الاحترام، ويولد مجتمع ساخر لا يصدق أحداً.
 
المسؤولية الجماعية
 
* لا عذر لمن يزوّر سيرته: لا هو “خطأ غير مقصود” ولا “سهو إداري”. إنه كذب متعمّد.
* الإعلام والمجتمع المدني مطالبان بكشف هذه الممارسات ومساءلة أصحابها بلا هوادة.
* الجمهور نفسه عليه أن يتوقف عن تقديس الألقاب دون تحقق، وأن يطالب بالشفافية بدل الاكتفاء بالصور والصفات.
 
خاتمة
 
قضية لكورنو ليست حادثة معزولة، بل جرس إنذار. من يكذب بشأن شهادته يمكن أن يكذب بشأن قراراته وأرقامه الاقتصادية. ومن يضلل الناس بلقب ديني مزيف يمكن أن يضللهم في فتاواهم ومواقفهم. النزاهة تبدأ من قول الحقيقة عن الذات، وأي مجتمع يغض الطرف عن الكذب الأكاديمي يصنع نخبة كاذبة ويقتل آخر ذرة ثقة بينه وبين من يفترض أنهم خدامه لا سادته.