تشكل العلاقات المغربية الإسبانية نموذجا معقدا ومركبا، فهي من جهة محكومة بالجوار الجغرافي والتداخل الاقتصادي والتحديات الأمنية المشتركة، ومن جهة ثانية مثقلة بتاريخ استعماري ثقيل وذاكرة جماعية لم تندمل جراحها بعد.
ورغم أن الموقف الرسمي الإسباني، خاصة بعد التحول المعلن سنة 2022. قد انخرط بوضوح في اتجاه دعم المملكة وتأييد المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل واقعي لملف الصحراء، فإن الساحة الداخلية في إسبانيا لا تزال تكشف عن تناقضات حادة، حيث تتحرك بعض الأحزاب والتيارات الإعلامية والمدنية في اتجاه معارض يناهض مصالح المغرب ويخدم أجندات إقليمية معادية لها.
كما أن الأزمات المتكررة التي تضرب الجزائر والبوليساريو تجد دائما صدى لها داخل إسبانيا، عبر حملات إعلامية أو مبادرات سياسية موجهة ضد المغرب، في محاولة للتغطية على إخفاقات المشروع الانفصالي.
في حين يستمر المغرب في التمسك بمطالبه المشروعة باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية، وفي المطالبة باعتراف إسباني واضح بالجرائم الاستعمارية التي ارتكبت في شمال المغرب، وخاصة استخدام الغازات السامة ضد سكان الريف.
علاقات تتأرجح بين منطق الشراكة الاستراتيجية التي يفرضها الواقع الجيوسياسي، وبين تبعات التاريخ وإكراهات الداخل الإسباني، وهو ما يجعل من هذه الثنائية محورا دائما للنقاش والتوتر في مسار العلاقات بين الرباط ومدريد.
تناقض بين الموقف الرسمي الإسباني وأصوات الداخل السياسي والإعلامي
لا شك أن الموقف الرسمي الإسباني اليوم بات يُصنف في خانة الشراكة الاستراتيجية مع المغرب، وهو ما تجسد بوضوح في اعتراف حكومة بيدرو سانشيز بمبادرة الحكم الذاتي كأفق واقعي لحل نزاع الصحراء. لكن في المقابل فإن الساحة الإسبانية الداخلية تكشف عن مفارقة واضحة، حيث تتحرك بعض القوى الحزبية والإعلامية في اتجاه مناقض، عبر خطاب عدائي يستهدف المغرب ويشكك في شرعية مصالحه الوطنية.
فعدد من الأحزاب الإسبانية، فسواء أحزاب اليسار الراديكالي، أو اليمين المتطرف، وحتى بعض التيارات القومية الانفصالية، لم تتحرر بعد من رواسب الماضي الاستعماري، وما زالت تحاول توظيف ملف الصحراء كورقة للمزايدة السياسية الداخلية، سواء ضد الحكومة المركزية أو في تبرير مواقفها الأيديولوجية المنحازة للانفصال.
وإلى جانب ذلك، نجد إعلاما إسبانيا مؤدلجا يفتح أعمدته لحملات متكررة ضد المغرب، محاولا تصويره كخصم دائم، وهو ما يتجسد في مقالات وتقارير بعض الصحف الإسبانية التي تتبنى رواية الأطراف المعادية للمغرب، وتغض الطرف عن الحقائق الميدانية والسياسية التي كرستها الشرعية الدولية.
هذا التناقض بين الخطاب الرسمي البراغماتي والخطاب الحزبي والإعلامي العدائي لا يعكس فقط ازدواجية الموقف الإسباني، بل يكشف أيضا حجم التأثير الذي ما تزال تمارسه بعض اللوبيات المرتبطة بالجزائر والبوليساريو داخل الساحة الإسبانية. وهو ما يجعل المغرب في موقع يتعامل فيه مع مدريد الرسمية كشريك استراتيجي، في الوقت الذي يواجه فيه حربا دعائية وإعلامية يقودها جزء من المشهد الحزبي والإعلامي الإسباني ضد مصالحه الحيوية.
توظيف الملفات الإقليمية المرتبطة بالمغرب في الداخل الإسباني
في كل محطة تعرف فيها جبهة البوليساريو أزمات داخلية أو تتعمق فيها عزلة النظام الجزائري، نلاحظ تحركات صاخبة لبعض الفاعلين الإسبان، سواء في المجتمع المدني أو في الأوساط الحزبية والإعلامية، تُوجه بشكل مباشر ضد المغرب.
سلوك يعكس علاقة وظيفية تربط تلك الأطراف بلوبيات مرتبطة بالجزائر والميليشيات الانفصالية.
فعندما تتصاعد الخلافات داخل تندوف، أو تبرز مظاهر العجز الجزائري عن تحقيق أي اختراق دبلوماسي، يخرج علينا جزء من الإعلام الإسباني بحملات منظمة تستهدف التشكيك في الموقف الرسمي الداعم للمغرب، أو في مصداقية مقترح الحكم الذاتي، كما تتحرك بعض الجمعيات الإسبانية لافتعال «تقارير حقوقية» أو «مبادرات تضامنية» مع البوليساريو، في محاولة لإعادة إنعاش مشروع انفصالي يعيش حالة احتضار سياسي.
هذه الحملات في جوهرها لا تعبر عن الموقف العام للشعب الإسباني ولا حتى عن المصلحة الوطنية الإسبانية، بقدر ما تكشف عن توظيف سياسوي وإيديولوجي يراد به التغطية فشل واندحار خصوم المملكة.
وبالتالي نجد أن المغرب أصبح يتعامل مع هذه التحركات كجزء من الحرب الإعلامية والنفسية التي تدار من الخارج، أكثر مما هي نابعة من الداخل الإسباني.
هذا الارتباط العضوي بين الأزمات الجزائرية والانفصالية وبين التحركات العدائية لبعض الأطراف الإسبانية، يبرز أن المعركة الحقيقية لا تدور داخل مدريد وحدها، بل هي امتداد لتقاطعات إقليمية تحاول الجزائر عبرها استغلال الساحة الإسبانية كمنصة إسناد لمعاداة المغرب وتقويض مصالحها.
ملفات تاريخية وسيادية بين المغرب وإسبانيا
لا يمكن الحديث عن مستقبل العلاقات المغربية الإسبانية بمعزل عن الملفات التاريخية العالقة، وفي مقدمتها قضية سبتة ومليلية والجزر المحتلة، إلى جانب الجرائم الاستعمارية التي ارتكبتها إسبانيا في شمال المغرب، وخاصة استخدام الغازات السامة ضد سكان الريف خلال عشرينيات القرن الماضي.
فالمغرب، وهو منخرط اليوم في شراكة استراتيجية مع مدريد قائمة على التعاون الأمني والاقتصادي ومواجهة التحديات المشتركة، لم يتخل قط عن مطالبه المشروعة باسترجاع أراضيه المحتلة.
هذه المطالب المشروعة للمملكة ليست مجرد خطاب سياسي ظرفي، بل هي جزء من الثوابت الوطنية المغربية، ومن الذاكرة الجماعية للشعب المغربي.
وفي السياق ذاته تبقى جرائم الاستعمار الإسباني في الريف، وعلى رأسها استعمال الأسلحة الكيميائية، جرحا مفتوحا في التاريخ المغربي الحديث، إذ ما تزال آثارها الإنسانية والصحية قائمة، وبالتالي فإن مطالبة المغرب باعتذار رسمي وجبر الضرر ليست عملاً رمزياً فحسب، بل هي شرط لتطبيع الذاكرة التاريخية بين البلدين، وترسيخ مصالحة حقيقية تتأسس على الاعتراف والإنصاف.
فالمغرب وهو يتعامل بواقعية وبراغماتية في بناء شراكته مع مدريد، لا يفرط في ثوابته السيادية ولا في حقوقه التاريخية، فالشراكة الاستراتيجية لا تعني محو الذاكرة أو التنازل عن السيادة، بقدر ما تعني إدارة العلاقة بمنطق الاحترام المتبادل، بما يضمن مصالح الطرفين ويؤسس لمستقبل مشترك متوازن.
يتأكد أن العلاقات المغربية الإسبانية تتسم بطابع مزدوج، يربط ما بين طبيعة الشراكة الإستراتيجية، والتحديات المستمرة النابعة من تناقضات الداخل الإسباني وامتداد الأزمات الإقليمية، إضافة إلى الملفات التاريخية التي لم تجد طريقها إلى التسوية.
وعلى الرغم من انتهاجه لرؤية براغماتية، يظل المغرب متمسكا بثوابته السيادية وبحقوقه التاريخية.