أحمد الحطاب: النُّخْبة المُثقَّفة والمجتمع

أحمد الحطاب: النُّخْبة المُثقَّفة والمجتمع أحمد الحطاب
النٌّخبة المُثقَّفة هي مجموعة من الناس لهم درايةٌ أو خِبرة واسعة بمختلف مجالات المعرفة أو في مجال معيَّن من المعرفة. وفضلا عن التَّوسُّع في مجال المعرفة، النُّخبة المثقَّفة لها القدرة على تحليل أوضاع المجتمع وتوجيه النقد لهذه الأوضاع كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
 
عادةً، النٌّخبة المُثقَّفة تتألف من المفكرين les intellectuels، من المنظرين les théoriciens، من السياسيين المستقلين politiques autonomes، من الاطباء، من المُحامين، من الإعلاميين، من المؤرِّخين والأساتذة  وعلماء الاجتماع… وبصفة عامة، النخبة المُثقَّفة تضمُّ، في صفوفها، أطيافاً كثيرةً من المفكِّرين الذين لهم باعٌ طويلٌ في مختلف مجالات المعرفة. 
 
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هنا، هو : "هل النخبة المُثقَّفة لها دورٌ داخلَ المجتمع، أي هل لها دورٌ في تحريك المجتمع والنهوض به إلى أرقى المستويات"؟
 
بدون أدنى شك أن النُّخبة المُثقَّفة لها دور، بل أدوارُ مُتنوِّعة داخلَ المجتمع. لماذا؟ لأن المجتمعات الراقية اجتماعياً وحضارياً، تكون فيها نسبةُ التثقيف أو نسبة المثقفين عالية جدا. كما تكون فيها نسبة التَّمدرس le pourcentage de scolarisation مقاربةً جدا لمائة بالمائة.
 
وبصفة عامة، أعضاء النُّخبة المُثقَّفة، أفراداً أو جماعات، لهم نظرتُهم الخاصة une vision particulière عن المجتمع وعن ما يروج فيه من أحداثٍ وتقلُّبات وتغييرات… بل منهم مَن لهم نظرة شمولية une vision globale عن المجتمع ماضياً، حاصراً ومستقبلاً. 
 
ولا داعيَ للقول أن النُّخبة المُثقَّفة هي جزءٌ لا يتجزَّأ من المجتمع، رغم أنها، في بلداننا، تنقسم إلى فئتين. هناك النُّخبة المثقَّفة الصامتة، وبكل أسف، تشكِّل الأغلبيةَ الساحقة. وهناك النٌّخبة المثقَّفة، قد نُسمِّيها "المُتحرِّكة" فكرياً واجتماعياً. 
 
وقد نقول إنه، من المفروض، أن تكون النُّخبة المُثقَّفة هي الناطق باسم المجتمع وتحمل همومَه كلما أصاب هذا المجتمعَ تصدُّعٌ أو تم حرمانُه من التَّمتُّع بحق من حقوقه المُستحقَّة أو كلما تزعزع توازنُه اجتماعياً، أخلاقياً… أو أصابه فسادٌ أو حلَّت به كارثة من الكوارث… وبصفة عامة، النخبة المثقَّفة هي التي تحثُّ على إثارة النقاش العمومي حول مختلف قضايا المجتمع ذات الطابع الاجتماعي، الاقتصادي، الأخلاقي، السياسي، الثقافي، العلمي، التِّكنولوجي، الديني، الفني، الرياضي…
 
بالنسبة لهذا البلد السعيد، ما يُؤسَف له، هو أن النُّخبة المُثقَّفة الصامتة، هي الأخرى تنقسم إلى عدَّة أنواع. فمنهم مَن اختار أن يتسيَّس، علما أن ممارسةَ السياسةِ، عندنا، كلُّها فساد. ومنهم مَن اختار الصَّمتَ خوفا من ردود الفعل المختلفة. ومنهم مَن اختار الصَّمتَ مقتنعين أن أفكارَهم لن يسمعها أحدٌ. ومنهم مَن اختار خدمةَ مصالحه الشخصية ممتطيين الشعارَ المشهور : "ومن بعدي الطوفان".
 
أما ما سمَّيتُه "النُخبة المثقَّفة المتحرِّكة فكريا واجتماعيا"، فأول عائق يحول دون نجاعة تحرُّكِها، هو أنها نزيهة وتميل ميولا قويا لقول الحق وتقديم الواقع كما هو، يإيجابياته وبسِلبياتِه. بل إن أكبر عائق يحول دون نجاعتِها، هو أنها تشكِّل أقليةً بالمقارنة مع النُّخبة المثقَّفة الصامتة. ولهذا، فصوتها، نادِراً ما يُسمَع ويُعمل به. 
 
بل إن هذا الصوتَ، غالبا ما يجد نفسَه في صراعٍ مع النُّخبة المثقَّفة الصامتة، وخصوصا، إذا تسيَّست هذه النخبةُ و وصلت إلى مراكز القرار. حينها، يضيع صوتُ "النُخبة المثقَّفة المتحرِّكة فكريا واجتماعيا" في دهاليز لامبالاة النُّخبة المثقفة الصامتة.
 
أما إذا اقترن مفهوم النخبة المثقفة الصامتة ب"السلطة والمال"، فلنقل وداعا لصوت "النُخبة المثقَّفة المتحرِّكة فكريا واجتماعيا". حبنها، لم يعد صوتُ هذه الأخيرة إلا خيالا لا يُرى ولا يُسمع. لماذا؟ لأن آذانَ وأبصارَ النُّخبة المثقفة الصامتة منشغلة في تدبير قضايا ذاتية تعود عليها بالنفع، أولا وقبل كل شيء.
 
وفي الختام، شتانَ ما بين النخبة المثقَّفة التي عرفتها فترات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. كانت هذه النخبة مسيَّسة، لكنها لا تؤمن إلا بالسياسة ذات المعنى النبيل، أي السياسة التي تؤمن، فقط وحصرياً، بالنزاهة والاستقامة والعدل والإنصاف وكرامة العيش والحق والحرية والديمقراطية…
 
كانت النخبة المثقَّفة، آنذاك، تستغل مكانتَها في المجتمع لتطرحَ للنقاش العمومي كل القضايا التي تستحق هذا النقاش. فكانت تسعى إلى أقناع الغير وتقترح حلولا لهذه القضايا. وكان همُّها وشغلُها الشاغل، هو أن كل القضايا قابلة للنقاش le débat وللنّقد البناء la critique constructive.
 
وحتى إن لم تستطع النُّخبة المثقَّفة الماضية إسماعَ صوتها لمَن يهمُّهم الأمر، فعلى الأقل، كانت تساهم، إلى أبعد حدٍّ، في نشر الوعي والتَّوعية في المجتمع.