مقدمة
قصف قطر ذكّر بلحظة تاريخية مفصلية: قمة الرباط سنة 1969 بعد إحراق المسجد الأقصى. آنذاك وُلد إجماع إسلامي حول القدس، أما اليوم فإن الهجوم على دولة عربية ملكية تُعتبر محمية بواشنطن يكشف أن لا حصانة لأحد، حتى لو كان يحتضن أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط.
وللتوضيح، لا نقارن بين الدوحة والمسجد الأقصى، بل بين الآثار المترتبة على الحدثين: فكما أطلق حريق الأقصى دينامية وحدوية غير مسبوقة، يكشف قصف الدوحة أن لا عاصمة عربية أو إسلامية محصّنة ضد العدوان الإسرائيلي.
هذا الحدث لا يُقرأ في حجمه العسكري المباشر، بل في دلالاته النسقية الأعمق: سقوط وهم “الأمان المطلق” تحت المظلة الأمريكية، وعودة فكرة التحالفات الإقليمية خارج الحسابات الأمريكية. والمشهد الجديد يفتح أمام المغرب فرصًا مهمة، فمقوماته المتراكمة تجعله أقل تأثرًا بالمتغيرات وأكثر قدرة على تحويلها إلى مكاسب.
من وهم الحصانة إلى لحظة التصدع
الهجوم الإسرائيلي على قطر ليس مجرد اعتداء عابر، بل هو نقطة انعطاف نسقي. لسنوات طويلة، قامت فرضية الاستقرار على فكرة أن التحالف مع واشنطن، أو استضافة قواعدها العسكرية، يوفر حماية مضمونة. قصف قطر أطاح بهذه الفرضية، ليكشف أن الردع الأمريكي، مهما بدا قوياً عسكرياً، يفقد فاعليته حين يتحول إلى غطاء للتغوّل الإسرائيلي.
هذه المفارقة أحدثت صدمة سياسية واسعة: فإذا لم تعد قطر، بكل ما تمثله من ثقل اقتصادي واستراتيجي وارتباط وثيق بالولايات المتحدة، محصّنة، فإن أي دولة عربية أخرى معرضة بدورها لأن تكون ساحة مفتوحة أمام إسرائيل. وهنا تحديداً ينهار الأساس الذي قامت عليه موجة التطبيع الأخيرة: وهم “الأمان مقابل الانفتاح”.
المحور الملكي: من منصة للسلام إلى ساحة للاستهداف
الأنظمة الملكية في العالم العربي – المغرب، الأردن، السعودية، دول الخليج – كانت لعقود ركيزة الاستقرار. هذه الدول نجت من آثار الربيع العربي، واستطاعت أن توازن بين الشرعية التاريخية والحداثة المؤسساتية، كما أنها شكّلت حجر الزاوية في مسلسل السلام مع إسرائيل.
لكن قصف قطر أظهر أن إسرائيل لا ترى في هذه الأنظمة حلفاء بقدر ما تراها فضاءات لنفوذها المباشر. وهذا تحوّل خطير: فالمحور الذي بُني ليكون منصة للسلام صار نفسه ساحة للاستهداف. بالنسبة للمغرب، هذا التطور يكتسب أهمية خاصة. فرغم انفتاحه الدبلوماسي على إسرائيل، لم يتخلَّ يوماً عن مواقفه المبدئية تجاه القضية الفلسطينية. مشاركة الأمير مولاي رشيد في قمة الدوحة نيابة عن الملك ليست بروتوكولية فقط، بل هي إشارة سياسية دقيقة: المغرب يحافظ على استقلالية قراره، ويؤكد أن فلسطين تبقى جزءاً من ثوابته الدبلوماسية.
المغرب: براغماتية القوة
المغرب يقدم نموذجاً جلياً لهذا التحول. فبعد خمس سنوات من اتفاقيات أبراهام، كان من بين الدول الأكثر استفادة استراتيجياً: حصل على اعتراف أمريكي بسيادته على الصحراء، وراكم تأييداً أوروبياً وإفريقياً، وحوّل قضيته الوطنية إلى ورقة مرجِّحة في المحافل الدولية. وفي المقابل، فقدت إسرائيل الكثير من صورتها ومكانتها، وانكشفت في غزة كقوة عارية من الشرعية الأخلاقية.
القراءة السطحية ترى أن الاعتراف الأمريكي بالصحراء كان ثمناً للتطبيع. لكن القراءة الأعمق تكشف غير ذلك: واشنطن لم تمنح المغرب هدية مجانية، بل راهنت عليه كـ”مرساة أطلسية إفريقية” بعد تراجع فرنسا وصعود روسيا والصين في غرب القارة. الاعتراف بالصحراء كان استثماراً أمريكياً في الاستقرار، وليس مكافأة ظرفية.
هذا يمنح المغرب أوراق مناورة غير مسبوقة: فهو قادر على الحفاظ على تحالفاته الأطلسية من جهة، والانخراط في الموقف العربي–الإسلامي من جهة أخرى، دون أن يخشى خسارة مكتسباته الجوهرية. بهذا المعنى، المغرب لا يختار بين التحالفات، بل يحوّل تعددية الأقطاب إلى مصدر قوة مضاعفة.
رصيد الحكمة السياسية
إلى جانب مقوماته الجيوسياسية، يملك المغرب ما يمكن وصفه بـ”رصيد الحكمة السياسية” الذي يضعه في مرتبة مختلفة عن الوسطاء التقليديين. فالمغرب ليس مجرد قناة صامتة لتبادل الرسائل، ولا وسيطًا محايدًا يتخفى خلف الرمادية؛ مواقفه المبدئية تجاه فلسطين ثابتة وعلنية، ويعرفها الطرف الإسرائيلي كما يعرفها العرب والمسلمون.
خصوصيته تكمن في قدرته على الجمع بين الصلابة في الثوابت والمرونة في البحث عن الاستقرار الإقليمي. هذا التوازن يمنحه موقعًا استثنائيًا يتيح له الانفتاح على الجناح العقلاني داخل إسرائيل، الذي سيبرز لا محالة كبديل بعد سقوط رهانات اليمين المتطرف. وبهذا يصبح المغرب طرفًا لا غنى عنه في إعادة تهيئة شروط العودة إلى مسار سلام جدي وقابل للحياة.
التوازنات الإقليمية الجديدة: من تحالف ضد إيران إلى تحالف ضد إسرائيل
بالتوازي مع ذلك، برزت دعوات من دول وازنة – مثل تركيا، إيران، وباكستان – لتفعيل نظام أمني مشترك. وإذا انضمت إليه مصر والسعودية، فإن المعادلة تصبح ذات وزن استراتيجي قد يغيّر قواعد اللعبة.
المفارقة هنا أن إسرائيل التي كانت في قلب تحالف عربي سني شبه معلن ضد إيران، تجد نفسها اليوم على مشارف تحالف أوسع يضم خصومها الذين قد يصبحون، موضوعياً، خصوماً للولايات المتحدة أيضاً. إسرائيل تتحول تدريجياً إلى عبء استراتيجي على واشنطن: بدل أن تقرّب لها الحلفاء، تبعدهم وتدفعهم إلى أحضان الصين وروسيا.
وهنا تختل معادلة الردع الأمريكي: فكلما ازداد هذا الردع قوة، كلما كانت مفاعيله الجيوستراتيجية سلبية، لأنه يتحول إلى غطاء للتغوّل الإسرائيلي على دول وشعوب المنطقة. وبدلاً من أن يكون مظلة استقرار، صار يولّد ديناميات مضادة تدفع القوى الإقليمية للتفكير في بدائل جماعية تعيد التوازن.
البعد الدولي والأوروبي: تعددية الأقطاب كفرصة
لا يمكن قراءة هذا التحول بمعزل عن المشهد الدولي الأوسع. العالم يعيش مرحلة انتقالية:
• بين روسيا والغرب في أوكرانيا.
• بين الصين والولايات المتحدة في التكنولوجيا والطاقة.
• بين أوروبا وواشنطن في الخلافات التجارية.
• وبين الهند وأمريكا في معادلة معقدة حيث تجد نيودلهي أن الضغط الاقتصادي الأمريكي أشد إيلاماً من الخطر الصيني.
في خضم هذه التحولات، شهدت أوروبا دينامية جديدة لصالح القضية الفلسطينية. فقد اعترفت إسبانيا وإيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية رسمياً، فيما أعلنت فرنسا والمملكة المتحدة نيتهما القيام بالخطوة نفسها في 22 شتنبر. هذا الزخم الأوروبي، الممزوج بحالة استياء شعبي متصاعد من السياسات الإسرائيلية، يضيف وزناً مضاعفاً للتحولات الجارية.
المغرب، بفضل شبكة علاقاته مع أوروبا وأمريكا وإفريقيا والعالم الإسلامي، هو الأكثر قدرة على استثمار هذا التعدد. فهو ليس مضطراً للاصطفاف الأحادي، بل بوسعه أن يكون جسراً بين المحاور المتقابلة، مستفيداً من هذه التناقضات لتعزيز موقعه ومصالحه الوطنية.
خاتمة
إسرائيل أرادت أن تُظهر قوتها فكسرت وهم الحصانة. المحور الملكي تحوّل من منصة للسلام إلى ساحة استهداف. لكن النتيجة لم تكن كما خططت لها: عوضاً عن عزل إيران، وجدت نفسها على مشارف تحالف إقليمي أوسع ضدها.
المغرب، في قلب هذه المعادلة، يملك اليوم أوسع مساحة مناورة في تاريخه الحديث، لأنه جمع بين مكاسب استراتيجية في الصحراء، وشرعية إسلامية متجددة، ورصيد حكمة سياسية. اللحظة ليست أزمة ظرفية، بل محطة نسقية ستحدد معادلات الأمن الإقليمي لعقود قادمة. ومن يُحسن استثمارها – والمغرب في المقدمة – سيكون شريكاً أساسياً في هندسة المستقبل