لا يكاد يخلو تراث بشري من شخصية المخادع. فهو الوجه الذي يطل علينا في هيئة حيوان ماكر أو إله مراوغ أو رجل بسيط يتلاعب بالقوانين. إنه شخصية متعددة الأقنعة، لكنها ثابتة في وظيفتها: تجسيد قدرة الإنسان على البقاء من خلال الحيلة والتلفيق. في المخادع يلتقي الجد والهزل، القوة والضعف، النظام والفوضى. وأمام حضوره الكوني، يصبح السؤال: لماذا يتكرر في كل الثقافات تقريباً؟ قدّم كلود ليفي-ستروس في كتابه "الفكر المتوحش" فكرة أساسية لفهم هذه الظاهرة: الفكر الأسطوري يشبه عمل الحرفي. لا يبتكر من العدم، بل يستعمل بقايا العالم، يقتطع من هنا وهناك، ويركب عناصر متنافرة ليصنع منها معنى جديداً. هذه العملية أسماها التلفيق (bricolage). وعندما نتأمل شخصية المخادع، نجد أنها تجسيد حي لهذه العملية. فهو لا يخترع عالماً جديداً بالكامل، بل يستغل ما هو متاح أمامه: كذبة صغيرة، خدعة ساذجة، أو ثغرة في النظام. يحوّل الضعف إلى قوة، والهشاشة إلى طاقة خلاقة. في التراث العربي مثلاً، نجد شخصية جحا التي تعيش في ذاكرة الشعوب من المغرب إلى المشرق. جحا لا يحارب بالسيف ولا يملك ثروة، لكنه يربك خصومه بالسخرية والدهاء. وبذلك يلتقي مع المخادع الإفريقي أو الأمريكي أو اليوناني في وظيفة واحدة: إعادة صياغة العالم بواسطة الحيلة.
المخادع في الميثولوجيا العالمية
أ. إفريقيا
– أنانسي والعائلة الكبيرة للمخادعين في غرب إفريقيا، وخاصة في غانا، يحضر أنانسي العنكبوت بوصفه سيد الحكايات. أنانسي ضعيف الجسد، لكنه يملك سلاحاً لا يقهر: المكر. يحيك القصص كما يحيك خيوط شبكته، ويتلاعب بالآلهة والبشر ليظفر بما يريد. أحياناً يخدع ليحصل على الحكمة كلها لنفسه، وأحياناً يفشل فيسقط في شر أعماله. هنا تكمن فرادته: ليس بطلاً مثالياً، بل شخصية مزدوجة، مثلنا نحن البشر. لكن أنانسي ليس الوحيد.
في الحكايات الإفريقية يظهر الأرنب بوصفه المخادع الأثير: يتغلب على الأسد أو الفيل بالحيلة. وهناك أيضاً السلحفاة التي تنتصر ببطئها ودهائها على السريع القوي. هذه الحيوانات تمثل خبرة الشعوب الإفريقية التي واجهت قسوة الطبيعة وضعف الإمكانيات، فوجدت في الحيلة وسيلة للبقاء.
ب. أمريكا الأصلية
– الكيوتي والغراب وننابوجو عند قبائل أمريكا الشمالية: يظهر الكيوتي (الذئب البري) كأكثر الشخصيات إثارة. إنه مهرج الكون: يخرق القوانين، يثير الفوضى، لكنه في النهاية يساهم في خلق النظام. هو من سرق النار للبشر، ومن علمهم أحياناً القواعد الأساسية للحياة. يجمع بين اللعنة والنعمة، بين الضحك والتأسيس.
أما الغراب، في أساطير الساحل الشمالي الغربي (التلنغيت والهييدا)، فقد سرق الضوء من السماء ليمنحه للبشر. الغراب طائر يتغذى على الجيف، أي على الحدود بين الحياة والموت. لذلك صار رمزاً للتحوّل والتجدد. إنه المخادع الذي يحوّل الموت إلى حياة.
كما يظهر ننابوجو في أساطير الأوجيبوي (شعوب البحيرات الكبرى). هو بطل ساخر، يعلّم البشر القوانين من خلال أخطائه وحماقاته. إنه المعلّم عبر العبث.
ج. آسيا
– القرد الملك وأبطال الحيلة في الصين: يحضر سون ووكونغ، القرد الملك في الرواية الكلاسيكية "رحلة إلى الغرب". هو مشاغب، ساخر، متمرّد على الآلهة، لكنه أيضاً بطل يرافق الحاج في رحلته. قوته ليست جسدية فحسب، بل تكمن في حيله اللامتناهية وقدرته على التحوّل. إنه مخادع يبرر وجوده بالذكاء، لا بالولاء للقوانين.
وفي الهند، تظهر شخصيات مماثلة في "جتاكا" (حكايات بوذية) حيث تتكرر صورة الأرنب أو الثعلب الماكر. هذه الشخصيات تُعلِّم الحكمة لا عن طريق الوعظ المباشر، بل من خلال المكر والمفارقة.
د. أوروبا واليونان
– من هرمس إلى الحكايات الشعبية في الميثولوجيا اليونانية، نجد هرمس، إله الحدود واللصوص والتجار. سرق الماشية من أخيه أبولون وهو طفل رضيع، لكنه أصبح رسول الآلهة. يجمع بين اللصوصية والوساطة، بين المكر والتواصل. هو النموذج الكلاسيكي للمخادع الذي يخرق القانون ليعيد تأسيسه على نحو جديد. وفي الحكايات الشعبية الأوروبية، يحضر الثعلب بوصفه الماكر الذي ينجو دوماً، والأرنب الذي يفلت من مطاردة الذئب. هذه الحكايات تعكس الفلسفة نفسها: الضعيف يعيش بالحيلة.
هـ. العالم العربي
– جحا والحيلة الشعبية: أما في الثقافة العربية–الإسلامية، فشخصية جحا تظل الأكثر حضوراً وانتشاراً. قصصه، الممتدة من بغداد إلى فاس، تحمل نفس السمات: قلب المنطق، السخرية من السلطة، كشف التناقضات الاجتماعية. جحا قد يبدو ساذجاً، لكنه في النهاية يحرج القاضي أو يفضح الغني أو يخلخل القانون الجامد. في "ألف ليلة وليلة" أيضاً، نجد عشرات الحكايات المبنية على الحيلة: المرأة التي تنجو بدهائها، التاجر الذي ينجو بخداع ذكي، الجواري اللواتي يقلبن الأوضاع. وفي "السير الشعبية" مثل سيرة بني هلال، نجد أن الدهاء جزء من البطولة نفسها.
حديدان بطل الحكايات الشفوية في المغرب، لصّ ماكر ينجو دائمًا بفضل ذكائه ولسانه السريع.
بظهر عادةً في موقف غير متكافئ: فقير أمام أغنياء، أو فرد أعزل أمام السلطة، فيستعمل الحيلة ليهزم خصومه.
الحكايات لا تركز على “جريمة” السرقة بقدر ما تمجد القدرة على المراوغة والنجاة.
المخادع والتلفيق عند ليفي-ستروس
قدّم ليفي-ستروس في كتابه "الفكر المتوحش" مفهوماً محورياً هو التلفيق (bricolage). يرى أن الأسطورة ليست ابتكاراً خالصاً، بل هي أشبه بعمل الحرفي الذي لا يملك أدوات جديدة، فيجمع بقايا الخشب والحجر والحديد ليصنع منها أداة نافعة. الفكر الأسطوري يعمل بالطريقة نفسها: يعيد استعمال الرموز القديمة، يدمجها، ويحوّلها إلى قصة جديدة. هنا يظهر المخادع كتجسيد حي للتلفيق: -الغراب لم يخترع الضوء، بل سرقه بحيلة ذكية ليمنحه للبشر. - أنانسي لم يخلق الحكمة من العدم، بل استولى عليها من الآخرين بخداع. - جحا لا يبتكر قوانين جديدة، بل يحوّر القوانين القائمة ويقلبها على أصحابها. - الكيوتي لا يهدم الكون، بل يعيد تشكيله من خلال الفوضى. بهذا المعنى، يصبح المخادع هو "المفكّر العملي" للأسطورة: يشتغل بما هو متاح، يركّب المتناقضات، ويكشف أن العالم لا يقوم على منطق صلب، بل على إعادة استعمال دائم للعناصر.
الميتيس اليونانية والحيلة العربية
يمكن أن نقارن هنا بين المخادع وفكرة الميتيس (métis) عند اليونان، أي الدهاء العملي. كان الإغريق يقدّسون الميتيس بوصفها ذكاءً لا يواجه القوة مباشرة بل يلتف عليها. هكذا انتصر أوليس في "الأوديسة": بالمكر لا بالسيف. وفي التراث العربي، نجد كلمة الحيلة بمعناها العميق: ليست مجرد خداع، بل فنّ في تحويل المستحيل إلى ممكن. يظهر كيف أن الثقافة الشعبية العربية جعلت من الحيلة أداة للبقاء والكرامة.
الدلالات الرمزية والفلسفية
1. شخصية وسيطة
المخادع يعيش دائماً على الحدود: الغراب بين الموت والحياة (لأنه يأكل الجيف لكنه يخلق الحياة بالضوء). الكيوتي بين النظام والفوضى. جحا بين العقل والجنون، بين الحكمة والعبث. هذه الوساطة تكشف أن الإنسان نفسه كائن بيني: ليس طبيعياً خالصاً ولا ثقافياً خالصاً، بل كائن متأرجح.
2. صوت المهمشين
المخادع غالباً ما يمثل صوت المهمشين. أنانسي يمثل دهاء الفقير في وجه القوي. جحا هو ضحكة الفقراء في مواجهة القاضي والسلطة. الكيوتي والغراب يمثلان الشعب في مواجهة القوى الكونية. إنه رمز أن الثقافة الشعبية تقاوم بالسخرية أكثر مما تقاوم بالسلاح.
3. رمز الإبداع
المخادع يكشف أن النظام يولد من الفوضى. العالم لا يُبنى بالانسجام الخالص، بل بالصدمات والمفارقات. الأسطورة تقول لنا: حتى الأخطاء يمكن أن تصبح أساساً للنظام. وهذا درس إنساني عميق: الإبداع يولد من التلفيق لا من الكمال.
4. المخادع اليوم
لا يختفي المخادع في عصرنا الحديث، بل يتجلى في الكوميديا والسخرية السياسية، في شخصيات مثل شارلي شابلن أو عادل إمام، في رسوم الكاريكاتور التي تفضح السلطة بضحكة واحدة. المخادع حيّ لأنه يعبر عن حاجة دائمة: قلب النظام بالهزل.
المخادع ليس مجرد شخصية ثانوية في الأساطير، بل هو ذاكرة كونية للفكر الإنساني. إنه الوجه الحي لمفهوم التلفيق: الثقافة لا تتقدّم بالابتكار المطلق، بل بالحيلة، بإعادة التوظيف، وبالقدرة على تحويل الضعف إلى قوة. يمكننا أن نلخّص ذلك بثلاث جمل:
- البنيوية تعطي البنية،
- التلفيق يخلق التنويعات،
- والمخادع هو الممثل المسرحي لهذه العملية. إنه البطل الذي يضحك ويسخر، لكنه في الوقت نفسه يعيد خلق العالم. ولهذا سيبقى المخادع جزءاً لا يتجزأ من المخيال الإنساني، من إفريقيا إلى العالم العربي، ومن أمريكا إلى الصين: رمز عبقرية الإنسان في تحويل الفوضى إلى نظام، والهشاشة إلى إبداع.