منذ صاح الشاعر الفلسطيني الفريد محمود درويش «أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا»، في مديح الظل العالي، لم يحفر أحد ظل أمريكا، غير مجلس النواب فيها، ليكشف أن الطاعون، في الوقت ذاته وحش متلبس بأقسى أشكال التعذيب.
ليس الإيرانيون من يسمون أمريكا الطغيان الأكبر، بل هم الأمريكيون ونخبتهم في مجلس القوة التشريعية الذين يصفون آلة التعذيب الأمريكية بالوحشية.
وقد استفاق العالم الغربي والمنظمات الحقوقية على وحشية الولايات المتحدة وأساليبها في معاملة سجنائها في غوانتانامو، والذين ظلوا يعتبرون أمريكا «وحشا» كبيرا، ولكنه وحش ديمقراطي داخل حدوده، ذهلوا من التقرير الذي نشره مجلس الشيوخ الأمريكي عن أساليب التعذيب التي انتهجتها الـ "سي.آي.آي" بعد 11 شتنبر.
ويشير ملخص التقرير، الذي جاء في نحو 480 صفحة عن التقرير الأصلي الذي يتكون من ستة آلاف صفحة، إلى أن الأساليب التي انتهجتها الـ "سي.آي.أي" كانت أكثر قسوة مما هو معروف، كما أنها جرت خارج علم وزارة العدل الأمريكية..
ولعلها المرة الأولى التي تتهيب دولة عظمى مثل أمريكا من مناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، إذ تعودت هي نفسها أن تصدر التقارير التي تنقط لكل دولة، ولكل منظمة ولكل مجموعة ترتيبها في سلم الأخلاق الحقوقية الحسنة.
هذه بداية، وليست نهاية في مسلسل التنسيب الأخلاقي الذي يجب أن تخضع له أمريكا في تقييم العالم الحر.
لنعد إلى الوراء..
الصدمة أكدت صواب أعداء أمريكا، من القوى السياسية الغربية نفسها ومن العالم، لكنها بالضبط هزت الثقة التي ألفها العالم الغربي في «القوة الأخلاقية» التي جسدتها قائدة دول التحالف ضد النازية في القرن الماضي.
ولذلك تبريره التاريخي، إذا استحضرنا أن أمريكا في الحروب العالمية -الأولى والثانية- ثم في الحرب الباردة، كانت تتقدم حاملة آلية الحرية والتسامح والانفتاح، في لوحة أوجين دولاكروا.
وكان الغرب الأوروبي، يعتبر بأن الأمريكيين قدموا أبناءهم في الحربين معا دفاعا عن قيم الحرية، ودفاعا عن أوروبا، ودفاعا عن الحق وكل القيم الجميلة.
صدمة العالم بعد نشر تقرير أمريكي حول التعذيب الذي مارسته مخابراتها في حق عشرات المعتقلين لن تقف عند الذين بشروا بقدرة أمريكا على قيادة العالم نحو الحرية.. نحو نهاية التاريخ بلغة فرانسيس فوكوياما، بمعنى انتصار الليبرالية الفكرية والاقتصادية والأخلاقية.
بل سيعطي أيضا قوة للذين سيعذبون مواطنيهم، والذين كانت أمريكا توردهم في تقاريرها كعنوان للسلوك الإنساني في عدم احترام حقوق الإنسان، وسيزيد من هشاشة المدافعين عنها كرمز لقوة المؤسسات، مما سيصب الماء في طاحونه من يقولون بعدم جدوى العمل المؤسساتي.. إلخ..
لكن قراءة ما تقدمه أمريكا لا يمكن قراءته إلا انطلاقا من القاعدة الأخلاقية الإنسانية المشتركة.. توجيه التهمة إلى أمريكا بعدم احترامها الشخصية البشرية، ولمؤسساتها، وخضوعها إلى نفس المنطق الذي اتهمت به الآخرين.
لا يمكن، بمعنى آخر، أن تكون أمريكا بمنأى عن السلم الأخلاقي الذي تدبج باسمه التقارير ضد الدولة.
بالنسبة للمغاربة، يضعف الموقف الأمريكي أكثر في قضية حقوق الإنسان، ومن حق المغاربة أن يطالبوها بالانسجام مع نفسها، بل بالنأي عن ملفات تتحكم فيها اللوبيات كما تحكمت الأجهزة السرية في مصير الناس والمؤسسات فوق ترابها.
النقطة الثانية بالنسبة للمغرب، هي أن التقرير الأمريكي تزامن مع تقرير أمنسيتي حول الحقوق في الجزائر، وهي المنظمة التي وصفت بـ "الخطيرة جدا"، التجاوزات في مجال حقوق الإنسان المسجلة في مناطق الجنوب الجزائري، لاسيما في غرداية وتقرت.
ومحصلة التقريرين أن «محور الجزائر واشنطن»، الذي بنى أطروحته على اتهام المغرب دوما بعدم احترام الحقوق، هو المحور الموضوع الآن تحت أضواء الاتهام..
وقد تمت الإشارة، بعد 2001، إلى أن الجزائر قدمت نفسها كضحية للإرهاب، وذات خبرة طويلة في محاربته، وعلى أساس ذلك تأسست «الثقة» بين البلدين في هذا المجال ومجال المصالح، وتأسست القرابة في الموقف من حقوق الإنسان في المغرب وفي صحرائه، وعانى المغرب من الجهود المالية والديبلوماسية للدولة الجزائرية في إقناع الدولة الأمريكية واللوبيات في الخارجية وفي الأمم المتحدة بوضع المغرب في مأزق حقوقي يسمح للمينورسو بتوسيع صلاحياته لتشمل القضية الحقوقية.. الآن يتضح لنا أن المحور في مأزق حقيقي، وسيكون من المفيد أن يقدم المغرب نفسه كضحية لعمل لا أخلاقي ولا حقوقي يجعل منه جلادا في منطقة يعرف فيها العالم الجلادين حق المعرفة.