العلاقة بين الصين وروسيا لم تعد مجرد تحالف سياسي أو شراكة ظرفية، بل تحولت تدريجيًا إلى منظومة تبعية بنيوية. منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية الواسعة، وجدت موسكو نفسها مضطرة للبحث عن شريان اقتصادي وتقني في الشرق، لتكتشف أن الصين ليست فقط شريكًا تجاريًا، بل أيضًا لاعبًا يفرض قواعد جديدة للعبة.
التجارة الثنائية بلغت نحو 245 مليار دولار في 2024، وهو رقم غير مسبوق يجعل الصين الشريك الأول لروسيا. إلا أن هذا الإنجاز يخفي تحولًا أعمق: أكثر من 40% من هذه المبادلات تتم باليوان، بعدما كانت النسبة هامشية قبل الحرب. هذا التغيير يُخرج موسكو من الهيمنة المالية الغربية، لكنه يضعها في قبضة العملة الصينية وأنظمة الدفع المرتبطة بها.
في مجال التكنولوجيا، أغلقت العقوبات الغربية أبوابًا عديدة أمام روسيا، فوجدت الصين نفسها المورد شبه الوحيد. أكثر من 90% من واردات الميكروإلكترونيات الروسية و70% من ماكينات العدد تأتي من السوق الصينية. هذه الأرقام تعني أن أي تعطيل في الإمدادات الصينية كفيل بشل الصناعات الروسية الأساسية، بما فيها القطاعات العسكرية. شبكات الاتصالات بدورها تعتمد على معدات هواوي، ما يجعل البنية التحتية الرقمية خاضعة لنفوذ صيني مباشر.
التأثير يمتد إلى المجال الأكاديمي والبحثي. أكثر من 21 ألف طالب روسي يدرسون في الجامعات الصينية، مقابل أكثر من 50 ألف طالب صيني في روسيا. هذه التبادلات التعليمية، التي تشمل برامج متقدمة في الذكاء الاصطناعي والفضاء، تبني جسورًا معرفية تجعل النخبة الروسية الشابة أكثر ارتباطًا بالمنظومة الأكاديمية والتقنية الصينية.
في قطاع الطاقة، التحول استراتيجي وحاسم. روسيا أصبحت المورّد الأول للنفط إلى الصين، بأكثر من 108 ملايين طن عام 2024، أي نحو 22% من واردات بكين. الغاز الطبيعي يتدفق عبر خط “قوة سيبيريا” بأكثر من 31 مليار متر مكعب سنويًا، مع خط جديد في الأفق سيرفع الكميات إلى أكثر من الضعف. هذه العقود طويلة الأمد تجعل روسيا مرتبطة بالسوق الصينية وحدها، وتغلق أمامها أي منافذ بديلة في أوروبا.
الانعكاسات الداخلية في السوق الروسية واضحة. بعد انسحاب الشركات الغربية، استحوذت العلامات الصينية على أكثر من 60% من سوق السيارات في 2024. من Chery إلى Geely وHaval، أصبحت المنتجات الصينية المهيمنة على الشوارع الروسية، إلى جانب توسعها في الإلكترونيات والأجهزة المنزلية.
الصورة النهائية تكشف عن علاقة غير متكافئة: روسيا تُصدّر النفط والغاز بأسعار مخفضة، وتستورد التكنولوجيا والسلع الاستهلاكية بأسعار تحددها بكين. هيمنة العملة الصينية، السيطرة على سلاسل التوريد، النفوذ في التعليم والبحث، وعقود الطاقة الممتدة كلها عناصر تؤكد أن بكين لا تحتاج إلى أدوات سياسية أو عسكرية مباشرة لبسط نفوذها. الاستحواذ يتم هنا عبر الأرقام والعقود والاعتمادية المتبادلة، حيث تكون الصين الطرف الأقوى والمتحكم.