"إن أكثر العلماء تائهون في بحر هذه القوة وعجائب متخيلاتها، وذلك أن الإنسان يمكنه بهذه القوة في ساعة واحدة أن يجول في المشرق والمغرب، والبر والبحر، والسهل والجبل، وفضاء الأفلاك وسعة السماوات، وينظر إلى خارج العالم، ويتخيل هناك فضاء بلا نهاية، وربما يتخيل من الزمان الماضي وبدء كون العالم، ويتخيل فناء العالم، ويرفع من الوجود أصلا، وما شاكل هذه الأشياء مما له حقيقة ومما لا حقيقة له".. هذا ما أكده "إخوان الصفا" وهم يتحدثون عن قوة التخيل وقدرته الابتكارية الخلاقة...
وهذا أيضا ما يسعى الكاتب والمترجم مصطفى النحال إلى تحقيقه في الكتاب الذي أصدره مؤخرا بعنوان "القدسي والدنيوي في السرد العربي" (212 صفحة من الحجم المتوسط)، راصدا هذه القوة ("التخيل" أو "التوهم"، سيان) "من خلال تجربتين فريدتين في تراثنا العربي الإسلامي: تجربة متصوف من القرن الثالث الهجري هو الحارث بن أسد المحاسبي البغدادي الذي كتب نصا رحليا متخيلا في اتجاه الجنة، رحلة عمودية نحو الفضاء القدسي ("كتاب التوهم".. وتجربة رحالة وجغرافي من القرن السادس الهجري هو أبو حامد الغرناطي الأندلسي، الذي كتب رحلة دنيوية تصف الأمصار الوسيطية من خلال المكونات المختلفة لأدب الرحلات ("تحفة الألباب ونخبة الأعجاب")".
ويبدو للوهلة الأولى أن هاتين التجربتين (السفر القدسي والسفر الدنيوي) متباعدتين، بحكم أن الأولى عمودية والثانية أفقية (سفر باتجاه السماء، وسفر في أمصار الأرض)، إلا أن الكاتب/ الدارس مصطفى النحال يوقفنا أمام عتبة الباطن التي تكشف للقارئ "الخيط الرابط بين أشكال رحلية ووصفية وسردية تتباعد ظاهريا من بعضها البعض"، ليتبين، للقارئ طبعا، "أننا أمام بنية سردية ووصفية متماثلة تكشف عن تنازع خفي وشفيف بين الرغبة والقانون"، ليستخلص أنه "ليس هناك ما يبرز هذه الوشائج غير مفهوم المتخيل في جميع تجلياته".
لا يمكن الحديث عن "القدسي" و"الدنيوي" دون الحديث عن "العجائبي"، وهذا ما انتبه إليه الكاتب في تقصيه لهذين المفهومين.. فالعجائبي حاضر فيهما إلى حد يجعلك لا ترى اثنين بل واحدا ينفلت منك في تعدده وتجلياته، يخترق الرمل والوحل في السفر الأرضي مثلما يخترق النور في السفر السماوي.. ألهذا اختار الدارس (مصطفى النحال) نصين/ تجربتين رحليتين مختلفتي الاتجاه، الأولى في السماء والثانية في الأرض؟ ألهذا اختارهما ليقول لنا، وهو يتحدث عن "العجائبي": "إن أدب الاختراق يغدو أدبا للكشف من خلال لعبة المرايا التي تجري تتم في ثقافة مهيكلة بالإحالات المتبادلة، أو بالتناص باللغة الحديثة. هذا التناص هو الذي ينظم الكتابات الدينية وغير الدينية في الوقت ذاته".
"القدسي والدنيوي"، صنيعة التخيل أو التوهم، ربما.. والتخيل أو التوهم لا يكون (هما هنا واحد) إلا بالتنقل من الداخل إلى الخارج، ومن الأنا إلى الآخر... هكذا، وكما يقول الكاتب/ الدارس في الكتاب: "فتكون المشاهدات والاستيهامات والأحلام في حركة متبادلة بين الأزمنة، بشكل خاص بين الحقيقي والوهمي، أو بين الطبيعي وفوق الطبيعي..."..
هكذا حين تكون الحركة، عمودية كانت أو أفقية، لصيقة بالأرض ككوكب فضائي له داخل وخارج، وله سطح وعمق، تمشي تغوص فيه أو تطير.. حين تكون حركة السفر هكذا، تنتفي المسافة بين الرؤية والرؤيا، بين الأليف والغريب، بين الحميم والجحيم، بين الرجل والمرأة، تماما مثلما هو الحال في هذه الشذرة من "كتاب التوهم" للنحاسبي: "فتوهمْ صعودها عليه بعظيم بدنها ونعيمه، حتى استوت عليه جالسة، ثم ارتقيتَ على السرير، فاستويتَ عليه معها، فقابلتك وأنت مقابلها، فيا حسنَ منظركَ إليها جالسة في حللها وحليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها، الأساور في معاصمها، والخواتم في أكفها، والخلاخيل في أسواقها، والحقاب في حقوها، والوشاح قد تنظَّر نهديها، وجال الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذلك على رأسها، والذوائب من تحت التاج، قد حللن من مناكبها، وبلغ أردافها وأنعالها، ترى وجهك في نحرها، وهي تنظر إلى وجهها في نحرك...".