في سياق الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وخلال الحفل الذي ترأسه أمير المؤمنين الملك محمد السادس بمسجد حسان بالرباط، يوم الخميس 11 ربيع الأول 1447 هـ الموافق 4 شتنبر 2025، قدّم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق ملخصًا للتقرير السنوي حول حصيلة أنشطة المجالس العلمية والشأن الديني. وقد تضمّن هذا التقرير توجيهات ملكية سامية ومضامين فكرية عميقة تستحق التأمل والتحليل، خاصة في ما يتعلق بمفهوم القيادة الدينية وتجديد الخطاب الإسلامي.
هذه الورقة لا تدّعي الإحاطة بجميع جوانب الكلمة، بل تسعى إلى قراءة بعض مضامينها من زاوية بنائية، مع التوقف عند بعض النقاط التي تستدعي التوضيح أو التوسيع، في إطار نقد إصلاحي بنّاء يهدف إلى تعزيز فعالية المشروع الديني المغربي.
أولًا: السيرة النبوية كمرجعية روحية ومصدر للإلهام الأخلاقي
جاء في الكلمة أن “الموضوع المتعلق بسيرته يكون بإبراز دور الإمامة العظمى التي تحملون أمانتها في العناية بالجناب النبوي الشريف سيرة ومدحًا وتعلّقًا روحيًا”، وهو تعبير يُظهر كيف أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يُختزل في الطقوس، بل يُوظف لإحياء النموذج النبوي في الأخلاق والوسطية، مع التركيز على البُعد الروحي الذي يُغذي الارتباط الوجداني بالنبي (ص).
ومع ذلك، فإن التركيز على المدح والتعلّق الروحي، رغم أهميته، قد يُغفل أحيانًا البُعد العملي للسيرة النبوية بوصفها نموذجًا في بناء المؤسسات، وإدارة التنوع، وتحقيق العدالة الاجتماعية. لذا، فإن استحضار السيرة ينبغي أن يتجاوز الإلهام الرمزي إلى التفعيل الواقعي، خاصة في ظل التحديات الأخلاقية والسلوكية التي تواجه المجتمعات المعاصرة.
ثانيًا: الرسالة النبوية كمنطلق للاجتهاد الفقهي المعاصر
ورد في التقرير أن “الموضوع المتعلق برسالته هو استنهاض همة المجلس لإصدار فتوى شاملة يرجع إليها الناس في أحكام الزكاة، ولا سيما في الأموال المكتسبة من الأنشطة الاقتصادية المستجدة”. هذه الدعوة للاجتهاد تُبرز وعيًا بضرورة مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تأصيل فقهي يُراعي المستجدات مثل التجارة الرقمية، العملات المشفرة، والعمل الحر.
وفي هذا السياق، فإن صدور الفتوى ضمن توجيه مركزي يندرج في صميم وظيفة المؤسسة الدينية، التي تسعى إلى حماية الفتوى من الفوضى والتطرف، وضمان انسجامها مع الثوابت الوطنية والمذهبية، وفي مقدمتها المرجعية المالكية التي تُشكل أساس الوحدة الدينية في المغرب. غير أن هذا التوجيه، لكي يُحقق أقصى درجات الفاعلية، يستفيد أكثر حين يُرفق باجتهاد جماعي متجدد داخل المدرسة المالكية نفسها، يُراعي تطور الواقع ويستثمر مرونة المذهب في معالجة القضايا المستجدة، بما يُعزز مصداقية الفتوى ويُرسّخ ثقة الناس في المؤسسات الدينية.
ثالثًا: دلالات الخطاب وموقعه في مشروع الإصلاح الديني
تحمل هذه الكلمة دلالات متعددة، من أبرزها:
• التأكيد على مركزية المؤسسة الملكية في توجيه الشأن الديني، ضمن إطار إمارة المؤمنين.
• الدمج بين البُعد الروحي والتشريعي في خطاب واحد، يعكس شمولية الرسالة الإسلامية.
• الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي بما يخدم حاجات المجتمع الحديث، دون أن يُفقده أصالته أو يُفرغه من مضمونه.
كما يشير التقرير إلى أن “ما يجري في مملكتكم في جانب التأطير الديني، بمبادرة العلماء، مشروع يطمح إلى آفاق كونية”، وهو طموح محمود، لكنه يتطلب توضيحًا أكبر حول آليات التفعيل، ومجالات التفاعل مع التجارب العالمية، حتى لا يبقى الطموح الكوني مجرد شعار بل يتحول إلى ممارسة قابلة للتقييم والمقارنة.
ومن جهة أخرى، فإن الخطاب يُبرز دور خطب الجمعة ضمن خطة التبليغ، ويُثني على تحليل الذكاء الاصطناعي لفعاليتها، لكنه لا يُناقش بعمق مدى تأثيرها الفعلي في تغيير السلوك، أو كيف يمكن قياس هذا التأثير في الواقع، خاصة في ظل التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تُضعف أحيانًا أثر الخطاب الديني.
خاتمة
ليست هذه الكلمة مجرد خطاب احتفالي، بل إعلان عن توجه إصلاحي يسعى إلى جعل السيرة النبوية مصدرًا للإلهام، والرسالة النبوية منطلقًا للاجتهاد، والقيادة الدينية ركيزة للتوازن بين الثوابت والتجديد. ومن خلال استحضار مضامين التقرير السنوي، يتضح أن المشروع الديني المغربي لا يقتصر على التوجيه، بل يسعى إلى بناء نموذج متكامل في الفهم والتبليغ، يستمد من القرآن والسنة، ويخاطب الإنسان المعاصر في عمق حاجاته الروحية والاجتماعية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا المشروع يظل رهينًا بقدرته على التفاعل الحيوي داخل المرجعية المالكية، والانفتاح المنضبط على الاجتهاد المتجدد، وتوسيع دائرة المشاركة العلمية، وتفعيل أدوات التقييم الواقعي، بما يُعزز الثقة في المؤسسات الدينية، ويُرسّخ الدين كمنظومة حياة لا مجرد جزء منها.