سعيد التمسماني: الاستقلال يعيد تعريف السياسة عبر التطوع.. من الشعار إلى منظومة عمل

سعيد التمسماني: الاستقلال يعيد تعريف السياسة عبر التطوع.. من الشعار إلى منظومة عمل سعيد التمسماني
في زمنٍ تتراجع فيه الثقة العامة تحت وطأة الوعود المؤجلة والجدل العقيم، يجرّب حزب الاستقلال وصفة مغايرة: سياسة تُقاس بما تنجز لا بما تقول. هكذا يقدّم الحزب برنامجه «2025 سنة التطوع» بوصفه منصة مدنية واسعة، تتقاطع فيها التربية على المواطنة مع خدمة الصالح العام، وتتحول فيها المشاركة من فعل موسمي إلى عادة مؤسَّسة.
 
من السياسة الخطابية إلى البنية التنفيذية
لم تعد لقاءات الحزب، كما ظهر في الرباط، مجرّد محطات بروتوكولية. الرسالة الآتية من اجتماع حضره أعضاء اللجنة التنفيذية والمنظمات الموازية والروابط المهنية واضحة: استعادة السياسة كأداة تعبئة ومرفق عمومي مكمّل، لا منافس، لعمل الدولة. على هذا الأساس، ينتقل الحزب من منطق «الحملة» إلى منطق «الخدمة»، ومن قياس الحضور بصناديق الاقتراع إلى قياسه بأثرٍ ملموس في حياة الناس.
في هذا السياق، أعلن الأمين العام للحزب نزار بركة التزام الاستقلال بإحداث معهد وطني للتطوع كآلية مؤسساتية تضمن ديمومة الفعل التطوعي وترسّخ ثقافة المسؤولية المجتمعية وروح الانتماء. وجاء الإعلان خلال لقاء تنظيمي ترأسه مساء الثلاثاء 2 شتنبر بالمقر المركزي بالرباط، خُصّص لتقييم الحصيلة المرحلية لبرنامج «2025 سنة التطوع» واستشراف آفاقه المقبلة. البرنامج، المنطلق منذ يناير الماضي، تمدّد بأنشطته في مختلف جهات المملكة ولامس طيفاً واسعاً من المجالات. بإدراج هذا المعهد، ينتقل الحزب من تحفيز المبادرة الفردية إلى بناء منظومة للتكوين والتأطير والتثمين، بما يجعل التطوع رأسمالاً اجتماعياً مُداراً لا رصيداً عاطفياً عابراً.
 
تطوعٌ بوظيفة استراتيجية
لا تأتي هذه المقاربة في فراغ. فالمشهد مُحمَّل بحملات تشكيك تسعى إلى خلخلة الثقة في المؤسسات. اختيار الاستقلال أن يواجه الضجيج بالفعل يحمل دلالة سياسية واجتماعية مزدوجة: تدعيم الجبهة الداخلية قبل أي سجال خارجي. لذلك يندرج دعمُ الفلاحين ومربي الماشية للاستفادة من 11 مليار درهم من المساعدات العمومية ضمن منطقٍ عمليّ لصون السلم الاجتماعي وحماية الأمن الغذائي، تماماً كما تندرج حملات التوعية بالسيادة الغذائية وبرامج القرب الموجهة للشباب والنساء ضمن إعادة توزيع الانتباه العمومي نحو الأولويات.
بهذا المعنى، لا يُستخدم التطوع واجهةً تزيينية، بل أداة سياسة عامة مكمّلة: يملأ فجوات، يعيد وصل الدولة بالمجتمع، ويمنح الأحزاب سبباً أخلاقياً للبقاء بين المواطنين خارج الدورات الانتخابية.
 
وحدة الجبهة: من الحي إلى المحفل الدولي
تتجاور في أجندة الحزب قضايا الحيّ وقضية الوطن. فالاستحقاق المرتقب في مجلس الأمن خلال أكتوبر يُقارب هنا من زاوية تعبئة الداخل للدفاع عن المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحلّ واقعي وذي مصداقية لنزاع الصحراء. الربط بين الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الرسمية ليس جديداً في الأدبيات السياسية، لكنه يكتسب هنا أدوات تنفيذ: شبكة متطوعين، منظومة تكوين، وبرمجة دورية قادرة على تحويل الاهتمام الوطني بالقضية إلى سردية سلوك يومي ونمط مشاركة. شعبٌ مُعبَّأ هو أفضل سفير لقضيته.
 
الشباب: من «مستفيد» إلى «شريك منتِج»
تُظهر الحصيلة المرحلية أكثر من 1500 نشاط تطوعي موثق، مع هدفٍ لتجاوز 2000 نشاط في أفق 2025. لكن القيمة المضافة ليست في الرقم وحده؛ إنما في تغيير موقع الشباب من متلقٍّ للخدمات إلى شريك منتِج للحلول: فرق محلية ترصد الحاجات الدقيقة للأحياء، مبادرات مدرسية وجامعية تعلّم العمل الجماعي، ومساحات لتجريب القيادة المبكرة. بهذا التحول، يصبح التطوع مختبراً عملياً للمهارات الناعمة (القيادة، التنظيم، حلّ المشاكل، التواصل)، أي للمقومات نفسها التي يحتاجها الاقتصاد الوطني وسوق الشغل.
 
شرط النجاح: الحوكمة والقياس
لكي لا تقع المبادرة في فخّ «النشاط من أجل النشاط»، لا بدّ من ثلاثة شروط:
حوكمة واضحة تحدد الأدوار بين الحزب والمؤسسات الشريكة والمجتمع المدني.
نظام قياس للأثر يتجاوز عدّ الأنشطة إلى تتبّع النتائج: كم أسرة حُسّنت قدرتها على الولوج إلى الخدمات؟ ما أثر البرامج على التشغيل المحلي؟ كيف انعكس ذلك على الثقة بالمؤسسات؟
تمويل متنوّع وقابل للاستدامة يزاوج بين موارد ذاتية وشراكات مع فاعلين عموميين وخاصين، بما يحفظ الاستقلالية ويضمن الديمومة.
المعهد الوطني للتطوع، إذا أُحسن تصميمه، يمكن أن يكون بيت خبرة وطنياً: يطوّر مناهج للتكوين، يُخرِج أدلّة عمل معيارية، يبني قاعدة بيانات للخبرات والمتطوعين، ويُطلق منصّات رقمية تُيسّر المطابقة بين الحاجات والكفاءات.
 
أثرٌ يتجاوز الحزب
إذا استمرّ الحزب في هذا المسار وتجنّب تحويل التطوع إلى رصيدٍ انتخابي ضيق، فقد تلتقط باقي الأحزاب الإشارة: يمكن للسياسة أن «تحتلّ الميدان» بغير الخطاب، وأن تستعيد ثقة الناس عبر خدمة ملموسة ومنتظمة. عندها نكون أمام انتقال سلوكي لا يخص حزباً بعينه: انتقال من ثقافة المطالبة إلى ثقافة المشاركة، ومن الاستقطاب إلى التعاون حول القيم المشتركة.
خاتمة: نحو عقد اجتماعي مصغّر يبدأ من القاعدة
رهان «سنة التطوع» ليس عنواناً تواصلياً. إنّه محاولةٌ لبناء عقد اجتماعي مصغّر يبدأ من الحيّ والقرية، تتقاطع فيه الدولة والحزب والمجتمع المدني على قاعدة واحدة: أثرٌ قابل للقياس، وخدمةٌ تُعيد للمواطن شعوره بالجدوى والانتماء. وإذا نجح الرهان، سنكون أمام سياسةٍ تستعيد شرعيتها من بوابة العمل اليومي: سياسةٍ تتواضع لتخدم، وتخدم لتجمع. في مغربٍ يبحث عن بوصلة، قد يكون التطوع هو الإبرة التي تعيد ضبط الاتجاه.