عبد الإله الجوهري: رحل علي حسن.. لكن تاريخه لن يرحل

عبد الإله الجوهري: رحل علي حسن.. لكن تاريخه لن يرحل عبد الإله الجوهري وعلي حسن
علي حسن، أو محمد الوالي، رجل جاء من جبال الأطلس متلفعا ببردة الأمازيغ، باحثا عن فضاء أرحب لتكريس تراث حامل لدلالات البقاء، والحفر في تراب العصر من أجل غرس زهور الفن، وورود الإختلاف، من خلال معرفة خلاقة، وعشق لا متناهي لكل ما هو إبداعي جميل.
حل منتصف سنوات الستينات من القرن الماضي بمدينة الرباط، حيث النهر والبحر والفرص العريضة، تاركا وراءه تفاح ميدلت، والكثير الكثير من الناس الطيبين، لكن دون أن يقطع الحبل السري الذي يربطه بهم، ويوحده معهم ومع ثقافتهم وجبالهم الشامخة. وصل شابا يافعا يتكلم العربية بطلاقة، كما يتكلم الأمازيغية بكل جمال وإتقان، لكن حديثه بالفرنسية كانت نقطة تفرده، بالنظر للكنته المحببة، وأسره لأسرارها وخبايا تفردها أكثر من الفرنسيين، وكل علماء التظاهر بالمعرفة، والانتماء لعائلة ليوطي المندسين بيننا. ومرد ذلك، أنه والفرنسية عشق ثقافي حقيقي، وليس مجرد تمظهر من تمظهرات "الحداثة" المفترى عليها، والتظاهر بالانتساب لشعب لا علاقة له بنا إلا من حيث كونه شعبا احتل في مرحلة ما أرضنا، وتجمعنا به اليوم علاقات إنسانية وسياسية وكفى.
في عاصمة المملكة، بنى أسسا صلبة، دخل بخطى ثابتة دار البريهي، ولجها عن جدارة واستحقاق، تدرج كل سلاليم التفوق، كمنشط ومعد لفقرات وبرامج إذاعية وتلفزية، ولعل برنامج "سينما الخميس" يظل بصمته الكبرى، وشهادته على التفوق، ودليل آخر على على عشقه لما يصنع، فمن خلال هذا البرنامج ساهم في زرع بذور محبة الفن السابع بين أجيال وأجيال.
السينما لم تكن بالنسبة لعلي حسن مجرد ثقافة، بل هواء نقي لا يستطيع أن يعيش دونه، ومدرسة لتهذيب الحس والذوق، والهروب من القبح، ومعانقة الجمال في كل حين. كانت السينما بيته الأول والأخير، وعلامته التي ميزته عن غيره، وجعلت منه أيقونة من أيقونات هذا البلد السعيد المسمى المغرب.
تجربته الصحفية الناجحة، لم تحجب قدرته على المشاركة في صنع أفلام سينمائية، سواء كسيناريست أو مشخص، ولعل تجربته كممثل في فيلم "ابن السبيل" لمحمد عبد الرحمان التازي، خير دليل على أن علي حسن كان فنانا عاليا، بقوة حضوره وهدوئه وبهاء طلعته. هذا الفيلم تجربة أولى تبعتها تجارب أخرى، بأدوار أقل مساحة، لكن ليس أقل أهمية، أذكر هنا دوره المفارق في فيلم "الغراب والثعلب" للمخرج الجزائري محمود الزموري، ودوره الرمزي في فيلم "رجال أحرار" لإسماعيل فروخي، وغيرهما من الأدوار.
لم يكن هذا الصحفي الممثل والكاتب والزارع لعشق الفن نصير الجموع والحضور، بل كان يحبذ الوحدة والانزواء في صومعته/شقته القريبة من مسرح محمد الخامس، مع دعوة الأصدقاء لزيارته في بيته، الذي لم يكن يغادره إلا عند الضرورة، ومما كرس انزواءه وعزلته أكثر فأكثر، وفاة ابنه الوحيد يوري (يوسف)، وهو في عز الشباب، موت / طعنة أصابته في القلب، ونالت الكثير من بهاء بسمته وقفشاته، فصار منذ ذلك الوقت حزينا منطويا على نفسه، حزن لم يفارقه حتى وهو يصر على البقاء ويمارس فعل الحضور والكتابة، آخر ما كتب سيناريو فيلم "شدة وتزول" للمخرج حميد باسكيط (لم يعرض بعد).
علاقتي بسي علي كانت علاقة حب واعجاب، كنت من بين المتتبعين لبرامجه التلفزية، وعاشقا لقدراته الخلاقة على تقديم الأفلام، والسفر بنا بين التجارب السينمائية المختلفة. كما ربطتني به صداقة نسجت هكذادون سابق إعلان، يعني بشكل عفوي، وذلك بعد دعوته لي للمشاركة في حلقة من حلقات "سينما الخميس"، كانت مخصصة للسينما الهندية، وذلك منتصف سنوات التسعينات من القرن الماضي، بعد التسجيل بمقر القناة الأولى، لم يتركني أرحل بل دعاني للسهر في بيته، خاصة وأنني كنت قادما من ورزازات التي كنت أقطن بها وقتها، سهرة لم تكن تشبه السهرات التي تعودت عليها، كانت سهرة / حديث متواصل عن السينما، والموسيقى، وعجائب الثقافات، سهرة امتدّت حتى مطلع الفجر دون توقف أو كلل أو ملل، منذ ذلك الوقت وعلي حسن صديق عزيز، نتواصل بين الفينة والأخرى، ونلتقي هنا وهناك، وإن كان في فترات جد متباعدة. سافرت وإياه إلى مدن مختلفة، وتعرفت على أسرته كما تعرف على أسرتي، لكن السفرة الأهم معه كانت نحو العاصمة الجزائرية، حيث اكتشفت فيه جوانب مضيئة من حب الناس والإنفتاح على الآخرين، وأن له معجبون في الفضاء الثقافي الجزائري، كما له أصدقاء احتفوا بحضوره أيما احتفاء، حد أنني قضيت إلى جانبه أسبوعا من أجمل الأسابيع.
رحل علي، لكن حسن سيظل حسنا بيننا، مات محمد لكن الوالي سيبقى واليا على مقاطعة المعرفة السينمائية، حيث ينذر أن نجد من يحتل مكانته، أو يمتلك موهبته، واليا حكيما، لكنه لا يتحكم في أعصابه عندما يواجه القبح أو الغباء، بل يطرح ما يحس به على البلاطة، كما يقول الإخوة في مصر، يعبر عن قناعته دون لف أو دوران. لهذا كانت بعض تصريحاته وخرجاته جد قاسية، دليلنا على ذلك، أنه كان من أشد المنتقدين لواقع التلفزيون المغربي، وأشد المهاجمين للنقد السينمائي المغربي، وأشد الغاضبين على ما ينتج في السينما المغربية، لكنه كان من أشد المعجبين بسينما مارتن كورسيزي، ودافيد لينش، وساتياجيت راي، وميزوغوشي، وأحمد البوعناني، وأحمد المعنوني، وكل كبار الحرفة السينمائية الحقيقية وطنيا ودوليا.
رحل علي حسن عن دنيانا، لكن تاريخه السينمائي والثقافي عامة لن يرحل.