عبد العزيز الخبشي: غياب الرئيس ومأزق الشرعية في الجزائر

عبد العزيز الخبشي: غياب الرئيس ومأزق الشرعية في الجزائر عبد العزيز الخبشي
تعيش الجزائر اليوم واحدة من أكثر اللحظات إرباكاً في تاريخها السياسي المعاصر، لحظة يتداخل فيها الغياب الجسدي للرئيس عبد المجيد تبون مع الغياب الرمزي لسلطة الدولة ذاتها، لتتجسد أزمة عميقة عنوانها فقدان الشرعية. ما يحدث ليس مجرد غياب عابر أو رحلة علاجية أو زيارة خارجية عادية كما يحاول الإعلام الرسمي أن يصوره، بل هو حلقة أخرى من مسلسل طويل يعكس طبيعة الحكم العسكري الذي يقوم على التعتيم والالتفاف على الحقيقة. منذ الاستقلال، لم تنجح الجزائر في بناء نظام مدني ديمقراطي يعكس إرادة الشعب، بل ظلت أسيرة حكم العسكر الذي يختزل السلطة في شخص الرئيس باعتباره واجهة شكلية لتوازنات الجنرالات. من هنا فإن اختفاء الرئيس، أو غيابه الطويل، يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات وجودية: من يحكم الجزائر فعلاً؟ ومن يقرر في مصير ملايين الجزائريين؟ وهل الرئيس هو مجرد واجهة لسلطة غير مرئية تتحكم في كل شيء من وراء الستار؟ هذه الأسئلة لا تحمل فقط بعداً سياسياً آنياً، بل تكشف عن أزمة بنيوية تتعلق بطبيعة الدولة نفسها وبمنطق إدارتها للشأن العام، أزمة تجعل الحاضر نسخة طبق الأصل من الماضي، حين عاش الشعب سنوات طويلة من الوهم مع رئيس مقعد اسمه عبد العزيز بوتفليقة، كان يُعاد انتخابه رغم عجزه الكامل، في مهزلة سياسية لم ينسها الجزائريون بعد.

إن ما يضاعف من خطورة الوضع هو أن هذا الغياب يأتي في لحظة تراكمت فيها أزمات اجتماعية واقتصادية خانقة. المواطن الجزائري لم يعد يكتفي بطرح أسئلة عن مصير الرئيس، بل بات يتساءل عن مصيره هو، في بلد يزخر بالثروات الطبيعية من نفط وغاز، لكنه يعيش يومياً مشاهد الندرة والحرمان: انقطاع الماء، اختفاء الحليب، أزمة النقل، وانهيار الخدمات الأساسية. في الوقت الذي تُهدر فيه مليارات الدولارات لدعم جبهة البوليساريو، يجد الجزائري نفسه محروماً من أبسط ضروريات العيش الكريم. هنا يتجلى التناقض الأكبر بين خطاب النظام حول "الكرامة والسيادة" وبين واقع الشعب الذي يعيش على الهامش. الغياب المتكرر للرئيس يكشف هذه الهوة ويضاعفها، إذ أن السلطة، بدل أن تواجه الأزمة وتصارح الشعب، تلجأ إلى التعتيم والدعاية، فتصبح البلاد في حالة فراغ سياسي حقيقي، حيث يترنح النظام بين غياب القيادة وتنازع الأجنحة، بينما تزداد ثورة الشارع غلياناً وصوت المعارضة ارتباكاً. بهذا المعنى، فإن غياب الرئيس ليس مجرد حدث بروتوكولي، بل هو عنصر يفاقم أزمة الثقة ويدفع بالبلاد إلى حالة انسداد سياسي لا مخرج منها إلا بإعادة النظر في طبيعة الحكم برمته.

لقد اعتاد الجزائريون منذ عقود أن يشاهدوا المسرحيات السياسية التي تنظمها السلطة باسم الاستقرار، لكن مع كل مرة يتأكد لهم أن الاستقرار المزعوم ليس سوى غطاء هش لعجز النظام عن الإصلاح الحقيقي. واليوم، مع غياب الرئيس تبون، يتكرر نفس المشهد الذي عاشته الجزائر مع بوتفليقة: رئيس غائب، إعلام رسمي يصنع الرواية، جنرالات يتنازعون في الكواليس، وشعب يعيش في دوامة الغموض. التاريخ هنا يعيد نفسه، لكن هذه المرة في سياق أكثر هشاشة، لأن الوضع الإقليمي والدولي تغيّر، وأصبح من الصعب على نظام مأزوم أن يواصل خداع شعبه إلى ما لا نهاية. فالأزمات المتلاحقة، من الحصار الإقليمي إلى العزلة الدولية، ومن الاحتجاجات الشعبية إلى الانهيار الاقتصادي، جعلت من الغياب الرئاسي مسألة خطيرة تعكس نهاية مرحلة وبداية أخرى قد تكون أكثر درامية. إن الشعب الجزائري لم يعد يرضى أن يُعامل كقاصر لا يحق له معرفة حقيقة من يقوده. بل بات يدرك أن غياب الشفافية يعني بالضرورة استمرار الوصاية العسكرية على الدولة، وأن أي انتقال ديمقراطي لن يكون ممكناً ما دام الرئيس مجرد ظل والجنرالات هم أصحاب القرار الفعلي.

تلوح في الأفق اليوم ملامح نهاية النظام العسكري الذي حكم الجزائر بقبضة من حديد لعقود طويلة. ليس لأن الرئيس غائب فقط، بل لأن الغياب عرّى هشاشة المنظومة كلها، وأظهر أن السلطة التي تخفي حقيقة مرض أو سفر الرئيس هي نفسها السلطة التي أخفت سابقاً عجز بوتفليقة، وهي نفسها التي تنفق أموال الشعب في مغامرات خارجية، بينما يعيش الداخل على الهامش. إن غضب الشارع من السياسات الرسمية، وفضائح الفساد، والحوادث المأساوية التي تحصد أرواح المواطنين في ظل بنية تحتية متآكلة، كلها مؤشرات على أن النظام يعيش أيامه الأخيرة. لكن السؤال الكبير هو: من سيقود المرحلة الانتقالية؟ وهل سيكون هناك فعلاً انتقال نحو نظام مدني ديمقراطي، أم مجرد إعادة تدوير للوجوه نفسها داخل دائرة العسكر؟ البعض يراهن على شخصية مثل أحمد عطاف، وزير الخارجية الحالي، فيما يرى آخرون أن شنقريحة، الرجل الأقوى في الجيش، لن يتنازل بسهولة عن السلطة. لكن الحقيقة الثابتة هي أن أي حل لا يمر عبر الشعب لن يكون إلا إعادة إنتاج لنفس الأزمة، لأن المشكلة ليست في الأشخاص بقدر ما هي في طبيعة النظام نفسه.

إن الجزائر التي يليق بها أن تكون قوة إقليمية في أفريقيا والعالم العربي، وصاحبة موقع استراتيجي وثروات هائلة، لا يمكن أن تنهض ما دامت رهينة حكم العسكر وما دام مصيرها مرهوناً بغياب رئيس أو حضور آخر. الشرعية لا تُبنى على الأكاذيب ولا على الصور المصطنعة، بل على الشفافية واحترام إرادة الشعب. وتماماً كما لم يرحم التاريخ الذين أخفوا مرض بوتفليقة، لن يرحم الذين يكررون الخديعة مع تبون. غياب الرئيس، بهذا المعنى، ليس عارضاً عابراً بل مؤشر على مأزق نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، نظام لم يفهم بعد أن الشعوب لا تُقاد بالدعاية ولا بالكذب، بل بالمصارحة والمشاركة والعدالة. وإذا كان ثمة أمل للجزائر، فهو أن يتحول هذا الغياب إلى لحظة وعي جماعي، تدفع الشعب إلى استعادة صوته وفرض إرادته، حتى لا يظل رهينة لعبة الجنرالات التي لم تجلب له سوى الخيبات.