نعيمة بنعبد العالي: كرة صوف العالم.. الفوضى، الابتكار، والنهضة

نعيمة بنعبد العالي: كرة صوف العالم.. الفوضى، الابتكار، والنهضة نعيمة بنعبد العالي

كل ابتكار يفك خيطاً، وكل أزمة تحلُّ نظاماً قائماً. لطالما قدَّمت الرأسمالية هذا الاضطراب كـ «تدمير خَلّاق»، وعداً بالتجديد. لكن اليوم، تتدحرج الكرة بين مخالب المال والعالم الرقمي والذكاء الاصطناعي. فهل نحن أمام نسيجٍ جديد مشترك، أم أمام عبثٍ بلا معنى؟

 

ليست الفوضى دوماً على هيئة عاصفة. أحياناً تشبه قطّاً لعوباً يعبث بكرة صوفٍ مرتَّبة بعناية. وقد رأى الاقتصادي شومبيتر في هذا المشهد جوهر الرأسمالية نفسها: «التدمير الخلّاق» الذي يهدم العالَم القديم ليبني آخر جديد. غير أنّ قطَّ عصرنا لم يعد بريئاً أو عابثاً فحسب، بل صار آلةً مدرَّبة لا تتوقف: المال المعولم، المنصّات الرقمية، والذكاء الاصطناعي.

 

الصوف والقط وشومبيتر

 ينفلت الخيط، يتشابك ويتعقّد، ويتبعثر النظام القديم في مظهرٍ من اللامبالاة.

لقد أعطى الاقتصادي جوزيف شومبيتر، في مطلع القرن العشرين، اسماً علمياً لهذا المشهد: «التدمير الخلّاق». فالرأسمالية، كما كان يفسّر، لا تتقدّم بالاستقرار، بل بالهزّات. كل ابتكار يدمّر عالماً قديماً ليبني آخر جديدا. السيارة مثلاً قضت على مهنة السائس والحدّاد، لكنها أنشأت مصانع السيارات ومحطات الوقود والطرق السريعة. الخيط المفقود يُعاد نسجه في مكان آخر.

أما اليوم فقد تغيّرت طبيعة القطّ. لم يعد حيواناً نزِقاً فحسب، بل صار آلةً مدرَّبة لا تكفّ عن الشدّ: المال المعولم، المنصّات الرقمية، والذكاء الاصطناعي.

· أوبر أزالت عالم سيارات الأجرة التقليدي، لكن السائقين يعيشون في عدم يقين وهشاشة.

· أمازون استبدلت آلاف المكتبات والمتاجر، لكنها حوّلت عمال مستودعاتها إلى تروسٍ مضبوطة بالثواني.

· الذكاء الاصطناعي التوليدي يهدّد اليوم المهن الوسطى: المترجمين، المحامين المبتدئين، المعلّمين، والمصمّمين.

هنا تلعب المالية دوراً جديداً: إنها من يوجّه مخلب القطّ. لم يعد المبتكر صاحب الرؤية هو من يقود، بل منطق مالي يفرض إيقاع الابتكار وفق معيار الربح الفوري. بعيداً عن «التقدّم»، ينتج هذا اللعب فوضى يستأثر بمكاسبها القلّة، بينما تتحمّل الأكثريّة الخسارة.

 

 حين تنغلق المجتمعات تتراجع

يذكّرنا التاريخ بأن الحضارات لا تتحطّم فقط تحت ضربات الخارج، بل حين تنغلق على ذاتها.

· الإمبراطورية الرومانية في أواخر عهدها انكفأت على حدودها ففقدت مرونتها.

· الصين الإمبراطورية، بعد القرن الخامس عشر، أغلقت طرقها البحرية، فجمدت علومها بينما اندفعت أوروبا إلى المحيطات.

· إسبانيا سنة 1492، بطرد اليهود والمسلمين، دمّرت كوزموبوليتية ثقافتها فتراجعت طويلاً.

وعلى العكس، كانت النهضات دوماً وليدة الانفتاح:

· أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، بازدهارها بفضل حوارها مع مصر وفارس.

· النهضة الأوروبية، المستنيرة بالمعارف العربية والبيزنطية، والمنفتحة على العالم البعيد.

· وحتى اليوم، تتيح لنا الشبكات العالمية أن ننهل من خزائن لا تنضب من ثقافات وعلوم وابتكارات.

 المجتمع لا ينجو بإغلاق كرته، بل بقبول أن تتقاطع خيوطه مع غيره ليُنسَج قماشٌ جديد.

 

 المأزق المعاصر

كان شومبيتر يعتقد أن التدمير الخلّاق يقود دوماً إلى توسّعات جديدة. لكن اليوم، يبدو الخَلق محصورا أكثر فأكثر بين أيدي نخبة تكنولوجية ومالية. القطّ ما زال يلعب، لكن كرة الصوف لم تعد تُنسج لبساطٍ مشترك، بل لتلتفّ حول أقدام قلّة قليلة.

لقد رأى ماركس هذا المسار من قبل: فالرأسمالية «تذيب كل ما كان صلباً». وكانت حنّة آرندت تؤكد أنه وحده الفعل الجماعي يمنح الفوضى معنى. أما زيجمونت باومان فكان يصف زمننا بـ الحداثة السائلة، حيث كل شيء يذوب قبل أن يتشكّل من جديد.

 

نحو إعادة خلق مشتركة

 الخيوط منفلتة، والكرة مشتتة وتائهة. لكن التاريخ يعلّمنا أن هذه اللحظات من الفوضى الظاهرية هي أيضاً عتبات خصبة. لماذا؟ لأن المجتمعات تحمل في داخلها قوة على الردّ:

· الاتصالات العالمية تمنحها ذاكرة فورية: فلا فوضى معزولة، والجميع قادر على التعلّم من الجميع.

· الثروة الثقافية والتقنية المتراكمة تفتح أمامنا موارد غير مسبوقة للابتكار.

· الأزمات نفسها ليست مجرد تهديدات: إنها منبّهات توقظ الخيال وتفرض إعادة التفكير.

ثلاثة مسارات تلوح للخروج من هذا الزمن المعلّق:

  1. التعليم والثقافة: لا لإعداد منفّذين، بل لصون النقد والإبداع.
  2. الانفتاح على العالم: لتبادل الأفكار والخبرات، بدل الانغلاق على الخوف.
  3. الفعل الجماعي: لنُعيد نسج نسيجٍ مشترك، له معنى بيئي وإنساني.

سيبقى القطّ يلعب. لكن الفارق أن نقرّر نحن: هل نترك الخيط يتبعثر عبثاً، أم نحوّله معاً إلى بساطٍ جديد، أوسع وأكثر عدلاً وحياة؟

 

خاتمة

نعيش اليوم حالة «ما قبل الإعادة»، بين الهدم والوعد بالتجديد. الخيوط مبعثرة، والكرة ما تزال بين مخالب القطّ. لكن التاريخ نفسه يذكّرنا بأن الفوضى ليست قدراً نهائياً، بل قد تكون لحظة ميلاد.

لقد صار بوسعنا أن نتعلّم فوراً من تجارب الآخرين، وأن ننهل من ثروات ثقافية وعلمية هائلة، وأن نجعل من الأزمات دافعاً لإعادة التفكير.

الفوضى يمكن أن تكون مجرّد عبث، أو أن تتحوّل إلى وعد. والفارق، في النهاية، لا يتوقف على القطّ…
بل علينا نحن.