المجتمع المدني في المغرب يمثل حالة سوسيولوجية معقدة تعكس طبيعة التحولات التي عرفها الحقل السياسي والاجتماعي. فالمفهوم في أصله يحيل على فضاء وسيط بين الدولة والمجتمع، مجال مستقل عن السلطة السياسية وعن منطق السوق، يتحدد دوره في إنتاج القيم، وتأطير الأفراد، وتكوين رأي عام نقدي قادر على مراقبة السلطة والتأثير فيها عبر الترافع والإقناع. غير أن الممارسة المغربية أفرزت وضعية مختلفة، حيث أخذ المجتمع المدني أبعادًا هجينة جعلت حدوده مع الحقلين السياسي والنقابي غير واضحة.
يمكن تفسير هذا التحول سوسيولوجيًا بضعف الوساطة الحزبية وانحسار الثقة في المؤسسات السياسية، مما جعل الأفراد يبحثون عن قنوات بديلة للتعبير عن مطالبهم، فوجدوا في الجمعيات إطارا مناسبًا لتجسيد حاجاتهم والدفاع عنها. هنا برز المجتمع المدني ليس فقط كمنتج للمعنى والقيم، بل أيضًا كفاعل مباشر في المطالب الاجتماعية والاقتصادية، بل إن بعضه تحول إلى نقابة موازية تخاطب الدولة بلغة الحقوق المادية أكثر من لغة التربية المدنية.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الدولة نفسها في إعادة تشكيل المجتمع المدني. فجزء كبير من الجمعيات نشأ أو تعزز بدعم رسمي، إما لتأدية أدوار اجتماعية وخدماتية تكمّل عجز السياسات العمومية، أو ليكون قناة لتدبير الحقل السياسي بوسائل ناعمة. هذا ما يفسر ميل بعض الجمعيات إلى لعب دور واجهة انتخابية للأحزاب، أو إلى الانخراط في شبكات الزبونية التي تربط العمل المدني بالريع السياسي والمالي. وهو ما أفرز حالة من التوظيف المتبادل: المواطن يوظف الجمعية للمطالبة بحقوقه اليومية، والحزب يوظفها لحشد الأصوات، والدولة توظفها لضبط المجال الاجتماعي وتخفيف الاحتقان.
سوسيولوجيا، يمكن القول إن المجتمع المدني في المغرب يعكس سيرورة إعادة تشكيل الحقول الاجتماعية كما وصفها بورديو؛ حيث يحدث تداخل بين الحقول بدل استقلالها، فيتحول الحقل المدني إلى مجال متنازع عليه بين منطق القيم ومنطق المصالح. وبدل أن يشكل المجتمع المدني قوة رمزية لمراقبة السلطة وإنتاج خطاب نقدي مستقل، صار في كثير من الأحيان امتدادا وظيفيا لضعف الحقل السياسي الرسمي.
إنّ اختلال الدور هنا ليس مجرد انحراف وظيفي، بل هو مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بالبنية العامة للعلاقة بين الدولة والمجتمع. فحين يغيب الوضوح في الحدود بين الحقول، يصبح المجتمع المدني نصفه أداة للتنشئة على المواطنة ونصفه الآخر أداة للتعبئة السياسية. وهذا ما يجعل صورته في المغرب متأرجحة بين الفاعل النقدي المستقل وبين الفاعل الزبوني الذي يعيد إنتاج اختلالات الحقل السياسي نفسه.
السعيد صدقي، دكتور باحث في السوسيولوجيا