في زمنٍ تُختزل فيه الرياضة إلى منتج استهلاكي، وتُفرغ من بعدها الرمزي، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في موقعها داخل المشروع الثقافي والهوياتي. لم تعد الملاعب مجرد فضاءات للفرجة، بل تحولت إلى ساحات للصراع الرمزي، حيث تتشكل الهويات، وتُعاد صياغة الانتماءات، وتُختبر حدود الوعي الشعبي. وهنا، يصبح استحضار فكر أنطونيو غرامشي ضرورة، لا ترفًا نظريًا.
غرامشي، المفكر الإيطالي الذي عاش في قلب الصراع الطبقي، لم يرَ في الثقافة مجرد إنتاج نخبوي، بل اعتبرها ساحة للصراع من أجل الهيمنة. الهيمنة الثقافية، حسب غرامشي، لا تتحقق بالقوة، بل بالقبول الطوعي من الجماهير، عبر مؤسسات مثل المدرسة، الإعلام، والدين… واليوم، يمكن أن نضيف إليها الرياضة.
فالرياضة، بما لها من شعبية وتأثير، أصبحت أداة لإعادة إنتاج القيم السائدة، أو لتحديها. وهنا يكمن جوهر المشروع الثقافي الهوياتي: أن نعيد للرياضة معناها الاجتماعي، وأن نحررها من قبضة السوق.
سقراط إلى إيطاليا: لاعب يساري في قلب الرأسمالية
في عام 1984، انتقل سقراط، اللاعب البرازيلي والمثقف الماركسي، إلى نادي فيورنتينا الإيطالي. لم يكن هدفه المجد الرياضي، بل قالها صراحة:
“أنا هنا لقراءة غرامشي باللغة الأصلية ولدراسة تاريخ الحركة العمالية.”
لكن التجربة لم تدم طويلًا. اصطدم سقراط بمنطق الدوري الإيطالي، حيث تُقاس القيمة بالأرباح، وتُهمّش المتعة، ويُستبعد الوعي. شعر بالغربة داخل منظومة لا تعترف بالموقف، فعاد إلى البرازيل بعد موسم واحد فقط.
كانت تلك الرحلة بمثابة اختبار فلسفي: هل يمكن للوعي أن يصمد داخل منظومة السوق؟ وهل يمكن للاعب أن يكون مثقفًا دون أن يُهمّش؟ سقراط أجاب بالفعل، لا بالكلمات: الوعي لا يُشترى، والموقف لا يُباع.
المغرب والفرصة الضائعة
في المغرب، تُمارس الرياضة في الأحياء الشعبية، وتُعاش في المقاهي، وتُناقش في الشارع، لكنها نادرًا ما تُدرج في السياسات الثقافية أو الهوياتية. يتم التعامل معها كـ”لهو”، لا كأداة للوعي. وهذا خطأ جسيم.
• لماذا لا يُنظر إلى اللاعب الشعبي كفاعل ثقافي؟
• لماذا لا تُستثمر الملاعب في بناء خطاب وطني جامع؟
• لماذا يُهمّش الرياضيون الذين يحملون قضايا اجتماعية؟
إن المشروع الثقافي الهوياتي لا يكتمل دون إدماج الرياضة فيه، لا كزينة، بل كركيزة.
نحو يسار رياضي جديد
إذا أردنا بناء مشروع ثقافي وهوياتي حقيقي، يجب أن:
• ندمج الرياضة في السياسات الثقافية.
• نعيد الاعتبار للرياضيين كمثقفين شعبيين.
• نستخدم الرياضة كأداة لمقاومة الهيمنة الرمزية للرأسمالية.
• نُعيد تعريف “النجومية” لتشمل الموقف، لا فقط المهارة.
الرياضة ليست ترفًا، بل ضرورة ثقافية. وسقراط، من خلال رحلته إلى إيطاليا، علّمنا أن اللاعب يمكن أن يكون قارئًا لغرامشي، ومقاتلًا من أجل العدالة، حتى داخل أكثر الأنظمة تسليعًا.
في زمن يغلب عليه التسطيح، نحتاج إلى رموز تجمع بين البساطة والعمق، بين الشعبية والوعي. نحتاج إلى “سقراطات” مغاربة، في الملاعب، في الأحياء، في الجامعات، وفي مواقع التواصل، يحملون همّ الوطن والعدالة الاجتماعية، ويعيدون لليسار المغربي روحه الثورية.