ملخص
يشكّل الفساد المؤسسي إحدى أبرز المعضلات التي تُقوّض مرتكزات الحكم الرشيد، وتُمهّد الطريق أمام تفشي انتهاكات حقوق الإنسان. فحينما تسود المحسوبية ويضعف مبدأ المساءلة، يتضاءل هامش حماية الحقوق والحريات. يهدف هذا المقال إلى تحليل العلاقة الجدلية بين الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، من خلال إبراز كيف يُؤسّس الفساد لبيئة الإفلات من العقاب، وكيف يُمثل تعزيز الشفافية والمساءلة الديمقراطية مدخلًا جوهريًا لكسر هذه الحلقة المفرغة.
مقدمة
ارتبط النقاش حول الفساد وحقوق الإنسان في العقود الأخيرة ارتباطًا وثيقًا ضمن الأدبيات الحقوقية والتنموية. إذ لم يعد الفساد يُنظر إليه فقط بوصفه عائقًا أمام النمو الاقتصادي، بل باعتباره عاملًا مباشرًا يُضعف حماية الحقوق الأساسية للأفراد ويُكرّس ممارسات انتهاكها. وقد أكدت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2003) على الترابط الوثيق بين الشفافية وحماية سيادة القانون، بينما شددت الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان على أن كرامة الإنسان لا تُصان إلا في ظل مؤسسات خاضعة للمساءلة.
الفساد كبيئة خصبة لانتهاكات حقوق الإنسان
يُوفّر الفساد مناخًا ملائمًا للإفلات من العقاب، من خلال إضعاف أجهزة الرقابة، وتغييب الشفافية في تدبير الشأن العام، وتداخل المصالح بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين. ونتيجة لذلك، يصبح من الصعب اكتشاف الانتهاكات أو ملاحقة مرتكبيها. هذا الواقع لا يُقوّض فقط ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، بل يُرسّخ ثقافة اللاعقاب، التي تُعد أرضية خصبة لمزيد من الانتهاكات.
العلاقة الجدلية بين الفساد والانتهاكات
تُظهر الدراسات المقارنة، مثل تقارير منظمة الشفافية الدولية، أن الدول ذات المستويات العالية من الفساد تسجل معدلات أكبر من الانتهاكات الحقوقية، في حين تميل الدول التي تُعزّز الشفافية إلى تحقيق حماية أفضل للحقوق. ويعود ذلك إلى أن مكافحة الفساد وحقوق الإنسان يشتركان في أهداف جوهرية، على رأسها المساءلة والعدالة. ومن ثم، فإن أي حكومة تُسجَّل عليها مؤشرات فساد مرتفعة من غير المرجح أن تلتزم فعليًا باحترام الحقوق والحريات.
التنمية والديمقراطية كشرطين أساسيين
لا يمكن فصل مسألة الفساد والانتهاكات الحقوقية عن سياقها التنموي والديمقراطي. ففي الدول التي تعاني من ضعف في مؤشرات التنمية وركود في المسار الديمقراطي، تغيب آليات الشفافية والمساءلة، ما يفتح المجال لترسيخ الانتهاكات وتغطيتها. وقد أكدت إعلان فيينا بشأن حقوق الإنسان (1993) على الترابط العضوي بين التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها عناصر متكاملة تُعزّز بعضها البعض.
الشفافية والمساءلة كآلية للوقاية
تُمثّل الشفافية والمساءلة حجر الزاوية في كسر الحلقة المفرغة بين الفساد والانتهاكات، إذ تسمحان بكشف الممارسات غير المشروعة، ومساءلة مرتكبيها، وتعزيز العدالة داخل المجتمع. وفي هذا السياق، تُعتبر استقلالية القضاء وحرية الصحافة والمجتمع المدني النشط أدوات مركزية لضمان مساءلة حقيقية تمنع تكرار الانتهاكات.
خاتمة
إن العلاقة بين الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان علاقة جدلية يُغذّي فيها كل طرف الآخر، على نحو يُقوّض أسس دولة القانون. فغياب الشفافية والمساءلة يُفضي إلى تفشي الفساد، بينما يُكرّس هذا الأخير ممارسات انتهاك الحقوق. من هنا، يتأكد أن بناء مجتمع يحترم الكرامة الإنسانية يقتضي التزامًا فعليًا بالمبادئ الديمقراطية، وترسيخًا لآليات المساءلة، باعتبارهما المدخل الأساسي لتعزيز العدالة الاجتماعية وصون حقوق الإنسان.
محمد السباعي، خبير وباحث في مجال حقوق الإنسان