الوقفة الاحتجاجية أمام مستشفى تاونات دعا إليها فعاليات محلية تعبر عن مطالب اجتماعية وصحية..
وحول هذا الموضوع، كتب عبد العزيز الخبشي، استاذ سابق لمادة القانون الإداري بمعهد تكوين التقنيين والتقنيين المتخصصين بإيموزار كندر وإطار إداري سابق بقطاع الجماعات الترابية:
يطرح القرار الإداري رقم: 2025/2 الصادر بتاريخ 19 غشت 2025 عن رئيس الملحقة الإدارية الأولى التابعة لباشوية تاونات والقاضي بمنع الوقفة الاحتجاجية المقرر تنظيمها يوم 25 غشت 2025 أمام المستشفى الإقليمي لتاونات، يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى انسجامه مع المقتضيات الدستورية والقانونية، ومع المبادئ الأساسية للحريات العامة والحقوق الإنسانية كما أقرتها المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. فهذا القرار، الذي استند في منطوقه إلى النصوص المنظمة للتجمعات العمومية، يضعنا من جديد أمام المفارقة القائمة بين النص الدستوري الذي يضمن حرية التعبير والاحتجاج السلمي، وبين الممارسة الإدارية والأمنية التي ما زالت تميل إلى مقاربة المنع والمصادرة والحد من الفضاء العام.
إن الملاحظة الأولى التي تستوقف القارئ للقرار تكمن في اعتماده على مبرر شكلي مفاده أن الوقفة الاحتجاجية غير مرخصة ولم تخضع للمسطرة القانونية. والحال أن دستور 2011 قد نص في فصله 29 بوضوح على أن حرية الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي مكفولة، ولا يمكن تقييدها إلا بالقانون. وهو ما يعني أن الأصل في الممارسة هو الإباحة والحرية، وأن المنع لا يجب أن يكون هو القاعدة وإنما الاستثناء، وأن أي قيد ينبغي أن يكون منصوصاً عليه بشكل صريح ودقيق في القانون، وأن يثبت وجود تهديد فعلي للنظام العام أو للمصالح العليا للبلاد، لا مجرد احتمالات أو افتراضات عامة. لكن ما ورد في القرار الصادر بتاونات لا يتجاوز العموميات، ولم يقدم أي دليل على وجود تهديد حقيقي للأمن أو النظام العام، بل اكتفى بالإشارة إلى غياب الترخيص، وكأن الحق في الاحتجاج مرهون سلفاً بقبول الإدارة. وهذا يتناقض مع جوهر الحق في التظاهر السلمي كما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 20) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 21) اللذين أكدا أن ممارسة هذا الحق لا يجوز أن تخضع إلا لقيود ضرورية في مجتمع ديمقراطي ولأسباب تتعلق بالأمن القومي أو النظام العام أو حماية الصحة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بمسألة التناسبية، إذ أن الاجتهادات الدستورية والفقهية تقر بأن أي تقييد للحقوق والحريات ينبغي أن يكون متناسباً مع الهدف المراد تحقيقه. بمعنى أن السلطات العمومية لا يحق لها أن تلجأ إلى أقصى درجات التقييد – أي المنع الكلي – إلا إذا تعذر عليها اللجوء إلى وسائل أقل تقييداً، مثل ضبط الاحتجاج، أو تحديد شروط تنظيمه، أو تغيير مكانه حفاظاً على السير العادي للمرافق العمومية. لكن القرار الصادر ألغى الوقفة بشكل مطلق ومنع أي شكل من أشكال الاحتجاج، مما يبين أن الإدارة لم تحترم مبدأ التناسبية، بل اختارت الحل الأسهل: المنع الشامل. وهذا السلوك يعكس بوضوح المقاربة الأمنية الضيقة التي ما تزال تهيمن على علاقة الدولة بالاحتجاجات الاجتماعية.
وتتأكد هذه الملاحظة إذا ما استحضرنا طبيعة الموضوع الذي كان محور الوقفة: المطالبة بحق السكان في العلاج والولوج إلى الخدمات الصحية أمام المستشفى الإقليمي. فهذا المطلب ليس سياسياً بالمعنى الحزبي الضيق، بل هو حق أساسي من حقوق الإنسان، نص عليه الدستور المغربي في فصله 31 الذي يؤكد على مسؤولية الدولة في ضمان الحق في العلاج والرعاية الصحية. وبذلك فإن المواطنين الذين دعوا إلى الوقفة كانوا يمارسون حقاً مزدوجاً: أولاً، حقهم في الاحتجاج السلمي، وثانياً، حقهم في المطالبة بخدمات صحية لائقة. وبالتالي فإن القرار الصادر لم يقتصر على تقييد حرية التظاهر، بل شكل أيضاً عرقلة غير مباشرة لممارسة المواطنين لحقهم في الصحة وفي الدفاع عن مصالحهم المشروعة.
كما أن استعمال مصطلح "غير مرخصة" في القرار يطرح إشكالاً قانونياً عميقاً. فالقانون المغربي المتعلق بالتجمعات العمومية (ظهير 1958) ينص على مسطرة الإشعار وليس الترخيص. بمعنى أن المنظمين ملزمون فقط بإخبار السلطات بالوقفة أو المسيرة، وليس انتظار الحصول على إذن مسبق. فالحق لا يقوم على الإذن بل على الإشعار، والإدارة لا تملك إلا الاعتراض في حالات استثنائية محددة. لكن الممارسة العملية حوّلت الإشعار إلى ترخيص، أي أن السلطات لا تعتبر الاحتجاج شرعياً إلا إذا وافقت عليه. وهذا قلب كامل للمنطق القانوني، وإفراغ لمبدأ الإشعار من محتواه، وهو ما يكرس عقلية الوصاية التي تناقض فلسفة دستور 2011 وروحه.
إن قراءة القرار في سياق أوسع تكشف أنه ليس حدثاً معزولاً، بل يأتي في سياق تراجع ملحوظ عن المكتسبات الحقوقية التي راكمها المغرب منذ بداية الألفية الثالثة. فخلال السنوات الأخيرة، شهدنا تزايداً ملحوظاً في قرارات المنع التي استهدفت وقفات احتجاجية سلمية في مدن متعددة، سواء تعلق الأمر بمطالب اجتماعية أو سياسية أو حقوقية. وهذا التوجه يعكس توجهاً سلطوياً يسعى إلى إعادة ضبط الفضاء العمومي وتقليص هامش التعبير الحر، خاصة مع تنامي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وازدياد الاحتقان الشعبي بسبب غلاء المعيشة وتدهور الخدمات العمومية. فالسلطة، بدل أن تواجه المطالب عبر الحوار والإصلاحات، تلجأ إلى المنع الأمني كوسيلة لتفادي الضغط الشعبي، وهو ما يجعل من الاحتجاج السلمي ضحية مباشرة لهذا المنطق.
كما أن القرار يضرب في العمق الالتزامات الدولية للمغرب. فالمملكة صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يلزمها بحماية حرية التعبير والتجمع. واللجنة الأممية لحقوق الإنسان أكدت في أكثر من مناسبة أن مجرد غياب الإشعار أو الإذن لا يبرر منع التظاهرة، وأن على الدول أن تسعى لتيسير ممارسة الحق في التظاهر السلمي بدل عرقلته. وعليه فإن القرار الصادر عن رئيس الملحقة الإدارية الأولى بتاونات قد يضع المغرب في مواجهة تناقض صارخ بين ما التزم به دولياً وما يمارسه داخلياً.
من الناحية الحقوقية، فإن أخطر ما يترتب عن مثل هذه القرارات هو خلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية. فحين يعلم المواطنون أن أي محاولة للاحتجاج قد تقابل بالمنع والعقوبات، فإن ذلك يضعف ثقتهم في جدوى النضال السلمي ويدفعهم إلى الانكفاء أو البحث عن وسائل غير قانونية للتعبير عن غضبهم. وهذا يهدد الاستقرار نفسه، لأن القاعدة الذهبية في الديمقراطيات هي أن السماح بالاحتجاج السلمي يشكل صمام أمان ضد الانفجار الاجتماعي. وبالعكس، فإن تكميم الأفواه يؤدي إلى تراكم الاحتقان وتحويله إلى أشكال غير متحكم فيها.
إن القرار الصادر عن رئيس الملحقة الإدارية الأولى بتاونات يعكس، أيضاً، خللاً في فهم دور الإدارة الترابية. فبدل أن تكون وسيطاً بين الدولة والمجتمع، ومساهماً في تدبير التوترات الاجتماعية بالحوار والانصات، تحولت إلى جهاز قمعي يختزل وظيفته في المصادرة والمنع. وهذا يتعارض مع الفلسفة الجديدة للسلطة المحلية كما وردت في دستور 2011، والتي تقوم على القرب من المواطن وخدمة التنمية المحلية، لا على تكريس الوصاية والتحكم.
من زاوية قانونية محضة، يمكن القول إن القرار المطعون فيه يعاني من عدة عيوب: أولها عيب السبب، لأنه لم يثبت وجود خطر حقيقي يبرر المنع. وثانيها عيب الانحراف في استعمال السلطة، لأن الإدارة استعملت سلطتها التقديرية بشكل مفرط لتحقيق غاية غير مشروعة وهي تقييد حق دستوري. وثالثها عيب التناسبية، إذ كان بإمكانها أن تختار حلولاً أقل قسوة. وهذه العيوب مجتمعة تجعل القرار قابلاً للإلغاء أمام المحكمة الإدارية، وهو ما يفتح الباب أمام الطعن فيه من طرف المتضررين.
إننا أمام لحظة دقيقة في مسار الحريات العامة بالمغرب. فكل قرار منع من هذا النوع ليس مجرد واقعة محلية معزولة، بل هو لبنة في جدار متنامٍ من التراجعات التي تهدد ما تبقى من هامش ديمقراطي. إن منع وقفة احتجاجية سلمية أمام مستشفى إقليمي ليس سوى عنواناً على أزمة أعمق: أزمة علاقة السلطة بالمجتمع، وأزمة غياب الإرادة السياسية لتفعيل الدستور، وأزمة ثقة بين الدولة والمواطن.
ولذلك فإن هذا القرار يجب أن يُقرأ لا فقط كإجراء إداري، بل كرسالة سياسية تعكس خوف السلطة من الاحتجاجات الاجتماعية، وإصرارها على إعادة رسم حدود الفضاء العام بما يخدم منطق الضبط والسيطرة. وهو ما يجعل السؤال الجوهري اليوم: هل نحن أمام انتكاسة حقوقية حقيقية تعيد المغرب إلى سنوات التضييق؟ أم أن هناك من لا يريد أن يترجم دستور 2011 إلى ممارسة فعلية؟
إن الجواب عن هذا السؤال يفرض على القوى الديمقراطية والحقوقية أن تعيد ترتيب أولوياتها، وأن ترفع الصوت ضد هذه التراجعات المتتالية. لأن الصمت عن قرار المنع اليوم قد يعني شرعنة المزيد من القرارات غداً، ولأن الدفاع عن الحق في الاحتجاج السلمي ليس ترفاً، بل هو معركة أساسية من أجل الكرامة والديمقراطية.
إن الدستور المغربي نص في فصله الأول على أن النظام الدستوري يقوم على أساس فصل السلطات وتوازنها وعلى الديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة. فكيف يمكن الحديث عن ديمقراطية تشاركية إذا كان صوت المواطن ممنوعاً من أن يُسمع في الشارع؟ وكيف يمكن الحديث عن محاسبة إذا كانت الإدارة نفسها فوق المحاسبة حين تخرق الدستور والمواثيق الدولية؟
إن أخطر ما في القرار الصادر عن رئيس الملحقة الإدارية الأولى التابعة لباشوية تاونات أنه يعكس إرادة لشرعنة المنع تحت غطاء القانون. وهذا ما يفرض على الحقوقيين والقانونيين أن يفضحوا هذا التلاعب بالمفاهيم، وأن يذكّروا أن القانون وُجد لحماية الحقوق لا للمصادرة عليها. وأن الدستور ليس مجرد نص على الورق، بل هو تعاقد ملزم بين الدولة والمجتمع.
يمكن القول في الختام، أن قرار المنع لم يكن مجرد رد فعل إداري على إعلان احتجاجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل كان رسالة قوية تكشف حدود الهامش الديمقراطي بالمغرب، وتؤكد أن التراجع عن الحريات ليس مجرد انطباع بل واقع يترسخ. والوقوف عند هذه الحقيقة بجرأة ووضوح هو الشرط الأول لأي نضال حقوقي جاد يطمح إلى إعادة الاعتبار للدستور وللحقوق التي دفع المغاربة ثمنا غاليا من أجل انتزاعها.