قناة الجزيرة منذ نشأتها كانت مشروعًا هندسيًا إعلاميًا، صُمّم بعناية ليكون أداة إعادة تشكيل الإدراك، ومنصة تشغيلية للصراعات، وسلاحًا ناعمًا يُغيّر الخرائط دون أن يُطلق رصاصة واحدة. لم تنشأ الجزيرة كرد فعل طبيعي على غياب الإعلام الحر، بل جاءت استجابةً لحاجة إستراتيجية، حيث أدركت القوى الكبرى بعد التدخل الأول في العراق أن السيطرة العسكرية لا تكفي، وأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على صناعة التصورات، بحيث يصبح الإعلام ليس ناقلًا للأحداث، بل خالقًا لها. لقد كانت المظاهرات في شمال إفريقيا بعد حرب الخليج الأولى هي الصدمة التي جعلت مراكز القرار تُعيد حساباتها، إذ أثبتت أن الجماهير لا تزال قادرةً على التحرك بشكلٍ غير مُتحكم فيه، مما فرض البحث عن أداة تضمن أن يكون أي حراكٍ شعبي، مهما بدا عفويًا، مُوجَّهًا داخل مسارات محددة، وهكذا، وُلدت الجزيرة بفلسفة مردوخية، حيث الإعلام ليس مرآةً للواقع، بل هو الأداة التي يُعاد بها تصميم الواقع وفق المخطط المطلوب.
أبرزت هذه القناة قوتها لأول مرة خلال حرب أفغانستان، حيث لم تكن مجرد ناقلٍ للخبر، بل كانت طرفًا في صياغته، وكانت المنصة الوحيدة التي تبث خطابات أسامة بن لادن، مما جعلها في قلب الأحداث لا كمراقب، بل كفاعلٍ يُعيد ترتيب زوايا الرؤية للحدث نفسه. لم يكن ظهور التسجيلات صدفةً، بل كان جزءًا من مشروعٍ أكبر يُعيد توجيه الصورة العالمية للصراع، بحيث تتحول الجزيرة إلى منصة تُمرَّر عبرها الرسائل التي لا يمكن قولها علنًا، ولكن يمكن تسريبها بطريقة تجعلها تبدو كإعلامٍ استقصائي. هذه كانت أولى مراحل الجزيرة في إثبات أنها ليست مجرد قناة، بل أداة تشغيلٍ يمكن استخدامها في ضبط السرديات الكبرى للحروب والصراعات.
ثم جاءت حرب العراق، وكانت الجزيرة مرةً أخرى في قلب المعادلة، ليست كوسيلة إعلامية، بل كأحد الأطراف التي تعيد صناعة الحدث. لم يكن دورها مجرد تغطيةٍ للأحداث، بل كانت تساهم في إعادة رسم خطوط الصراع، حيث أصبحت المصدر الأول لنقل الصورة من داخل بغداد، ليس كناقلٍ محايد، بل كمحرّكٍ للسردية الإعلامية التي جعلت الحرب تبدو وكأنها مسرحٌ دراميٌّ تفاعليٌّ يُشارك فيه المشاهد، بحيث لا يكون مجرد متلقٍ للأخبار، بل يكون جزءًا من الحدث من خلال انفعاله، وتشكُّل وعيه، وتوجيه عواطفه وفق الصورة التي تُرسم له. هذه كانت اللحظة التي أصبحت فيها الجزيرة أكثر من مجرد قناة: لقد تحولت إلى مصنعٍ للأحداث، حيث لا يُنقل الخبر، بل يُصنع من جديد وفق المعايير التي تضمن أن تبقى الرواية النهائية في يد من يتحكم بالصورة، وليس في يد من يعيش الواقع.
مع اندلاع "الربيع العربي"، أظهرت الجزيرة أقصى طاقاتها في إدارة الصراعات عبر الإعلام، حيث لم تكن تنقل المظاهرات، بل كانت تُحدّد اتجاهاتها، لم تكن تتابع الثورات، بل كانت تُوجّهها، لم تكن تُراقب الأنظمة، بل كانت تُعيد رسم شرعيتها أو سحبها وفق القرار السياسي الذي تم اتخاذه في غرف التحكم الكبرى. لم يكن الأمر مجرد تغطيةٍ صحفية، بل كان إعادة هندسةٍ جذريةٍ للمشهد السياسي العربي، حيث تم استخدام الإعلام كسلاحٍ قادرٍ على إسقاط أنظمةٍ، دون الحاجة إلى الجيوش، حيث يمكن للصورة والكلمة أن تُحدث أثرًا أكثر تدميرًا من الطائرات والقنابل. لم تكن المظاهرات تتحرك فقط وفق زخمها الشعبي، بل كانت تُقاد داخل أُطُرٍ إعلاميةٍ تجعلها تسير في المسار المطلوب، بحيث يتم تصعيد المشهد أو تهدئته وفق الحاجة، حيث يتم دفع الجماهير نحو حالةٍ من الحراك المستمر، دون أن تصل إلى أي نقطة حسمٍ حقيقية.
حين تضع الجزيرة تحت مجهر علم الوراثة الإعلامية، ستكتشف أن الحمض النووي الذي يحرّكها لا يشبه كثيرًا الـBBC أو CNN الكلاسيكية، بل يشبه إلى حد التطابق مدرسة روبرت مردوخ، الرجل الذي حوّل الإعلام من مرآة للواقع إلى ماكينة تصنيعه.
لماذا مردوخ بالذات؟ لأن فلسفته تقوم على خمس قواعد ذهبية، كلها واضحة في جينات الجزيرة منذ يومها الأول.
أولًا: الاستقطاب الحاد. مردوخ علّم العالم أن المشاهد لا يكفي أن يشاهد، بل يجب أن ينتمي لمعسكر ويعادي الآخر. الاتجاه المعاكس ليس بعيدًا عن صراعات Fox News، حيث لا يوجد وسط، بل طرفان يتبادلان القصف الكلامي حتى اللحظة الأخيرة.
ثانيًا: صناعة الأبطال والأعداء. مردوخ يعرف كيف يصنع وجوهًا جماهيرية، يلمّعها حتى تصبح رموزًا، ويصنع في المقابل خصومًا شيطانيين. الجزيرة تبنت الأسلوب نفسه: من تقديم القرضاوي كصوت الشرعية الدينية، إلى إعادة تأهيل الجولاني كقائد سياسي.
ثالثًا: المسرحة الدرامية للأحداث. لدى مردوخ قاعدة بسيطة: الخبر الجاف لا يعيش، لكن الدراما تخلده. الجزيرة جعلت بغداد 2003، وطرابلس 2011، وحلب 2016 قصصًا ملحمية تُروى بالصورة والصوت والموسيقى والتعليق المشحون.
رابعًا: إيهام الحرية داخل الإطار. في مدرسة مردوخ، يبدو النقاش حرًا، لكنه يدور في ملعب مسيّج بعناية. الجزيرة تفتح كل الملفات، لكن زوايا التصوير والضيوف المختارين يضمنون أن النتيجة النهائية تبقى ضمن السردية المرسومة.
خامسًا: التحكم بالزمن الإعلامي. مردوخ يعرف متى يرفع الصوت حتى يغطي على كل شيء، ومتى يهمس حتى يترك الأحداث تبرد. الجزيرة تتقن اللعبة ذاتها، ترفع حرارة التغطية في لحظة، وتخفضها فجأة إذا اقتضت المصلحة.
لهذا السبب، حين يسأل أحدهم: "من أين جاءت الجزيرة بهذا الأسلوب؟"، فإن الإجابة التي يعرفها المتخصصون في الجينات الإعلامية بسيطة: النطفة الأولى جاءت من مدرسة روبرت مردوخ، مع تعديلات وراثية جعلتها تتحدث العربية، وترتدي عباءة الهوية، لكنها حافظت على قلبها المردوخي النابض.
لهذا حين تدخل الجزيرة إلى جغرافيا ما، فهي لا تدخل كضيفة بل كمهندس خفي يبدأ بإعادة رسم الخرائط الذهنية قبل الخرائط السياسية ولا تغادره إلا وقد أعادت صياغته على صورة مشوهة لا تشبه ماضيه ولا مستقبلًا كان ممكنًا له، صورة يمكن تلخيصها بكلمتين: دولة مسخ، لكن المسخ هنا ليس في السياسة وحدها بل في كل بعد من أبعاد الحياة، فالسياسة تتحول إلى مسرح دائم تتبادل فيه الوجوه الأدوار بينما يبقى النص نفسه مكتوبًا بيد من يديرون المشهد من بعيد، وتصبح السلطة مجرد مقعد شاغر ينتقل بين من يملك القدرة على تمثيل الدور لا القدرة على قيادة الدولة، أما الدين فيتحول إلى نسخة مسخ أكثر خطورة، حيث الشعارات والمظاهر تطغى على الجوهر.
أفغانستان اليوم هي أكثر النماذج اكتمالًا لفكرة الدولة المسخ، وبالتحديد المسخ في التدين، فبعد عقود من الحروب والغزو والانسحاب، جاء خطاب “النصر” مغلفًا بعبارات الشريعة والمقاومة والكرامة، لكن خلف هذا الغلاف يقف واقع اقتصادي واجتماعي منهار، وفي وسط هذا الخراب يُسوّق التدين على أنه الإنجاز الأكبر، تدين يهتم بمظهر الزي واللحية، بتقسيم المساحات بين الرجال والنساء، بفرض أنماط سلوك اجتماعية صارمة، لكنه يتجاهل أن التعبد الحقيقي يبدأ من إطعام الجائع وتأمين الخائف، كما في القاعدة القرآنية الخالدة “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، ومع ذلك، يتم تقديم هذا النموذج على أنه انتصار تاريخي للمقاومة.
أفغانستان اليوم تُقدَّم كأيقونة الانتصار الإسلامي، نموذجًا لعودة الهوية بعد الغزو والانسحاب، صورة مكتملة الأركان تُسوَّق للجمهور المحلي والعربي والإسلامي والعالمي على أنها لحظة التحرر التاريخي، لكن خلف هذه الصورة المبهرة بلد يعيش أكثر من نصف سكانه على المساعدات الغذائية المباشرة، اقتصاد بقاء قائم على الريع والتهريب والمساعدات، بنية تحتية شبه غائبة، تعليم وصحة في قاع المؤشرات، بطالة متفشية، وفقر مدقع يجعل الملايين أمام خيارين قاسيين: الجوع أو الهجرة، وفي قلب هذا المشهد يُرفع خطاب النصر المغلف بعبارات الشريعة والمقاومة والكرامة، خطاب يركز على المظهر الشعائري أكثر من الجوهر المقاصدي، فيُقدَّم للناس تدين مسخ يختزل الدين في طول اللحية ونوع اللباس والفصل الصارم بين الرجال والنساء وضبط الحركات اليومية، بينما تتجاهل السلطة أن التعبد الحقيقي يبدأ من إطعام الجائع وتأمين الخائف كما تقول القاعدة القرآنية الخالدة “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”، لكن هذا الترتيب يُقلب عمدًا، فتُقدَّم الشعائر كدليل الإنجاز بينما الضروريات الحياتية غائبة، والجزيرة في هذا السياق ليست مجرد ناقل للخبر، بل مهندس سردية يصوغ وعي الجماهير بما يتوافق مع الصورة المراد تثبيتها، تبث خطابات القادة بلغة النصر، تنتقي مشاهد الانضباط المظهري، تُخفي صور الجوعى والمخيمات، وتُحاصر أي أسئلة عن الموازنة أو الخدمات أو التنمية داخل إطار أخلاقي مغلق يرى في النقد تهديدًا للدين نفسه، هكذا يصبح الحاكم الذي يرفع راية الدين محصنًا من المساءلة، وتتحول المعارضة السياسية إلى صورة من صور الكفر أو الخيانة، فيتحول الدين من مشروع حضاري لتحرير الإنسان وبناء مجتمعه إلى أداة ضبط اجتماعي وسياسي تحمي سلطة هشة وتخدم مصالح قوى أكبر من حدود البلد، وهذا النموذج من التدين ليس صدفة، بل نتيجة فلسفة هندسة إعلامية موجهة تتبناها الجزيرة بوعي كامل، فلسفة تستورد من مدرسة روبرت مردوخ تقنيات صناعة الواقع لكنها تعدلها لتناسب الجمهور الإسلامي، بحيث يصبح الدين منتجًا إعلاميًا قابلًا للتسويق العاطفي، سهل التكرار في ساحات أخرى، وقابلًا لإعادة التشغيل وقت الحاجة، إنه الإسلام الذي يُستحضر كهوية عاطفية لا كمشروع عملي، الذي يُرفع كشعار في معركة رمزية بينما تُغلق ملفات التنمية والعدالة والتعليم والبنية التحتية، إنه الإسلام الذي يضمن بقاء الأمة في دائرة رد الفعل لا الفعل، وبقاء السلطة الحاكمة في مأمن من النقد، وبقاء البلد نفسه في حالة “استقرار منخفض الجودة” لا ينهار تمامًا لكنه لا ينهض أبدًا، وهذا النموذج يخدم مصلحتين في آن واحد: مصلحة القوى الكبرى التي لا تريد لأي نموذج إسلامي ناجح أن يثبت قدرته على الجمع بين الدين والحداثة والتنمية، ومصلحة القوى الإقليمية التي تريد أن تبقى لاعبًا أساسيًا في إدارة الصراعات من دون تحمل عبء إعادة الإعمار، وبهذا المعنى فإن تسويق صورة أفغانستان ليس بيانًا لواقع، بل أداة ضبط للوعي، أداة تُخرج الإسلام من أفق حضاري مفتوح إلى قفص شعائري مغلق، وتحوّل المجتمع من فاعل تاريخي قادر على البناء إلى جمهور لمسرحية طويلة الأمد، مسرحية أبطالها يتغيرون لكن نصها يظل نفسه، نصٌّ يضمن أن تبقى دولة المسخ متحركة على إيقاع نشرات الأخبار، قابلة للاشتعال أو التهدئة حسب الحاجة، لها علم وحكومة وخطاب رسمي لكنها بلا سيادة ولا مشروع، مجرد كيان مشوَّه يتنفس من الأكسجين الذي تضخه الكاميرا، ويموت لو انقطع البث، هذه هي أفغانستان كما تُسوَّق اليوم: انتصار على الورق، هوية على الشاشات، خراب في الواقع، نموذج مثالي لدين بلا مشروع ودولة بلا روح، وبيئة مثالية لتكرار المسخ في أي ساحة أخرى قد تحتاجها غرف صناعة الواقع البعيد.
إن القارئ الذي يسمح لنفسه، ولو لمرة واحدة، أن يخرج من منطقة الراحة التي صنعتها له شاشاتٌ تحترف صناعة الصور أكثر مما تحترف نقل الحقائق، ويقبل أن ينظر من الزاوية التي لم يُدعَ يومًا إلى النظر منها، سيجد نفسه أمام حقيقة مُرّة لا تحتاج إلى كثير من الجدل: أن ما يراه على الشاشة ليس سوى قطعة مسرحية متقنة الإخراج، أُريد لها أن تُعرَض أمامه لتثبيت شعور بعينه، وأن كل ما اعتقده من تفاعلاته وانفعالاته لم يكن في أغلبه سوى استجابة مبرمجة لسيناريو أُعدّ سلفًا، وأن الجزيرة – في هذا السياق – ليست هي الهدف الذي ينبغي أن يفرغ غضبه عليه ولا المعجزة الإعلامية التي يرفعها على الأعناق، بل هي العقدة التي إذا فهم خيوطها أدرك أن ما يسميه "الخبر" لم يكن يومًا خبرًا، بل لبنة في جدار إدراكي أُريد له أن يحيط به حتى يحدد له ما يجب أن يخافه، وما يجب أن يحبه، وما يجب أن يكرهه، وما يجب أن يراه انتصارًا، حتى لو كان ذلك الانتصار قشرةً تغطي جثة وطن، أو رايةً فوق أطلال مدينة، أو تكبيرةً في مسجدٍ تحيط به أحياء جائعة لا تجد قوت يومها، وأن إدراكه لهذا يعني أنه صار أقرب إلى امتلاك الحصانة الحقيقية، لا تلك الحصانة الزائفة التي تمنحه إياها المقولات الجاهزة أو الشعارات المعلبة، لأن الحصانة الوحيدة التي تنقذه من الوقوع مرة أخرى في مصيدة الصور المصممة هي أن يعرف كيف يفرق بين الإسلام الذي يبدأ بإطعام الجائع وتأمين الخائف، وبين الإسلام الذي يبدأ بتحديد طول اللحية ونوع العباءة، وأن يفهم أن الجزيرة – كما غيرها من منصات هندسة الإدراك – لا تعمل في فراغ ولا تنطلق من فراغ، بل تتحرك داخل شبكة مصالح كبرى ترى في "الدولة المسخ" النموذج الأمثل للحكم؛ دولة تبدو كاملة الشكل، ناقصة الروح، لها مؤسسات بلا وظائف، ودستور بلا سيادة، ومقاومة بلا مشروع، ودين بلا مقاصد، فإذا وعى القارئ هذه المعادلة، وتجرأ على أن يسأل الأسئلة التي حُذّر طويلاً من طرحها، كالسؤال عن علاقة النصر بالبنية التحتية، أو علاقة الشريعة بسعر الخبز، أو علاقة الكرامة العامة بالقدرة على الوصول إلى الدواء، فإنه يكون قد خرج من دائرة "المتلقي المدجن" إلى دائرة "المراقب المحرر"، وعندها فقط يدرك أن النص الذي قرأه هنا لم يكن هجومًا على قناة بقدر ما كان دعوةً إلى استعادة حريته في أن يرى بعينيه لا بعدسة الآخرين، وأن يكتب هو نصه عن وطنه قبل أن يُكتب له في استوديوهات بعيدة.