شخصيا، ما أثارني في هذه التجربة المشرقة منذ مجئ "فاطمة الزهراء علمي"، كعميدة جديدة لكلية الحقوق بالبيضاء، أن أساتذة هذا الماستر لايقتصر دورهم على تزويد الطلبة بالمفاهيم النظرية والأطر القانونية، أو على توجيههم نحو "المكتبة القانونية" وحشد رؤوسهم بالدروس والأبحاث، بل يدفعونهم إلى اختبار معارفهم عبر الانخراط الفعلي في النقاشات العمومية، سواء من خلال كتابة المقالات ونشرها في الصحافة الوطنية، أو عبر المشاركة في الندوات وحلقات النقاش المفتوحة مع المنتخبين والفاعلين المدنيين. ذلك أن الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها التكوين هنا هي أن الجامعة لا يمكن أن تؤدي رسالتها الحقيقية إلا إذا انفتحت على المجتمع وأسهمت في صياغة وعيه النقدي.
ويصر الأساتذة، في تأطيرهم لطلبة الماستر، على هذا النهج البيداغوجي، معتبرين أن دور الجامعة يتجاوز تخريج أطر أكاديمية تقنية تبحث عن موطئ قدم في سوق الشغل، إلى تكوين جيل جديد قادر على التحليل، والنقاش والنقد وصياغة البدائل والحلول. ولذلك فإنهم يشجعون الطلبة الباحثين باستمرار على تحويل أوراقههم الأكاديمية إلى مقالات رصينة موجهة للجمهور العام، وعلى التفكير في القضايا الترابية والمجالية والسياسية من زاوية نقدية تتجاوز وصف الواقع إلى طرح الأسئلة المحرجة واقتراح إمكانات جديدة للفعل العمومي.
ويشكل نشر أبحاث الطلبة في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية عنصرا حاسما في هذه المقاربة. ذلك أن المعرفة الجامعية، حين تغادر أسوار الكلية وتصل إلى الحوامل الإعلامية الوطنية، تتحول من مادة أكاديمية متخصصة إلى رأي عام مؤثر وقادر على إثارة الانتباه والمشاركة في توجيه النقاش، وعدم تعليمه سياسيا وإيديولوجيا. كما أن الطالب، وهو يشارك في النقاش العمومي برأيه وأبحاثه، يكتسب وعيا مضاعفا: وعي الباحث الذي يشتغل على المادة العلمية بدقة، ووعي المواطن الذي يتفاعل مع قضايا بلاده ويطرح موقفا وانا ورصينا منها. بل إنه يكتسب الثقة في الإدلاء برأيه بكل اتزان، أي خارج المنزلق الإيديولوجي الذي ينتصر لهذا الطرح أو ذاك.
إن تكوين طلبة قادرين على متابعة التحولات الاجتماعية والسياسية وتحليلها نقديا، لا يخدم الجامعة المغربية وحدها، بل يمد الدولة والمجتمع برأسمال فكري ومعرفي ثمين، كما يحسن نسل التعاطي النقدي مع المشكلات المغربية، بما يخدم الرصيد الوطني ويمنحه قوة علمية وأكاديمية في مواجهة كل التحديات. وهذا يذكرنا مثلا بتوجهات عالمية راسخة في انفتاح الجامعة على الإعلام، منها ما يجري في فرنسا، حيث دأبت الصحف الكبرى مثل "لوموند" على تخصيص مساحات واسعة لمساهمات أساتذة الجامعات والباحثين الذين يشرحون الظواهر الاجتماعية والسياسية للرأي العام. وفي كندا، تعتبر الجامعة شريكة أساس في إعداد التقارير التي تسبق القرارات الحكومية، حيث تتحول بعض مراكز البحث إلى بيوت خبرة تستعين بها الدولة بشكل مباشر. أما في الدول الإسكندنافية، فقد ارتبطت الجامعات منذ عقود بالنقاش العمومي عبر احتضانها لمنتديات دائمة تجمع الأكاديميين بالسياسيين والمجتمع المدني. ومن هنا، فالحاجة ملحة لتلتحق الجامعة المغربية بهذا الزخم الفكري والأكاديمة في التعاطي مع القضايا الوطنية الشائكة، ذلك أنها لا تعرف أي انخراط حقيقي قوي في النقاش العمومي إلا في حدود ضيقة، وغالبًا عبر مبادرات فردية لأساتذة أو باحثين جامعيين. أما اليوم، فإن ماستر الحكامة الترابية بجامعة عين الشق يطرح نموذجا مؤسساتيا يجعل إشراك الطلبة في النقاش العمومي جزءًا من بيداغوجيا التكوين نفسها، لا مجرد اجتهادات فردية عابرة، مما يجعله مشروعا متكاملا لبناء جيل جديد من الباحثين، يدرك أن المعرفة ليست هي صياغة النظريات وتدوينها في الكتب و الدوريات العلمية، وإنما قوة اقتراحية ونقدية، يمكن أن تسهم في صياغة مستقبل الوطن، وإيجاد الحلول لكل مشكلاته.