تعرف الأوساط الحقوقية ومكونات المجتمع المدني، نقاشا قانونيا حول قضية الإساءة للذات الإلهية من طرف المدعوة ابتسام لشكر، الناشطة في "جمعية مالي"، أفضى هذا النقاش إلى تضارب واختلاف الآراء حول جدلية حرية التعبير وقيود احترام المقدسات ببلادنا. فهل يمكن ممارسة حرية التعبير والرأي بدون قيود متعلقة باحترام الثوابت الدينية والاخلاقية؟
ولمقاربة هذا الموضوع من زوايا المعايير الدولية لحقوق الانسان والدستور المغربي والقانون الجنائي، تستضيف جريدة "أنفاس بريس" العميد يوسف البحيري أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش منذ 1991 والمحاضر بالعديد من الجامعات الاوروبية، والذي سبق له نشر العشرات من المراجع القانونية باللغتين العربية والفرنسية حول الحريات العامة وحقوق الانسان.
في اعتقادكم، هل تحريك المتابعة الجنائية في حق الناشطة ابتسام لشكر بسبب الإساءة إلى الذات الإلهية والدين الإسلامي يتنافى مع الالتزامات الدستورية للمغرب في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة؟
لقد تم اعتقال الناشطة ابتسام لشكر بسبب ارتكابها لجنحة الإساءة إلى الدين الإسلامي التي يعاقب عليها القانون الجنائي المغربي بموجب الفصل 267-5 الذي يضمن حماية الثوابت الاساسية للأمة المغربية من خلال التنصيص على أنه ‘’ يعاقب على الإساءة للدين الإسلامي أو النظام الملكي أو التحريض ضد الوحدة الترابية للمملكة. وتنص العقوبة على الحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وغرامة من 20,000 إلى 200,000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين’’. بالنسبة للإساءة للدين الإسلامي فيشمل أي فعل أو قول يمس بالدين الإسلامي أو يقلل من شأنه.
كما أن ترسيخ الدين الإسلامي في الدستور المغربي لعام 2011هو بمثابة إعلان على إدراجه ضمن الثوابت الأساسية للأمة المغربية في الحياة العامة والتي يقوم عليها النظام السياسي كما هو الشأن بالنسبة للدعامات الأخرى مثل الملكية الدستورية والوحدة الترابية. فالإقرار بالتشبث بالدين الإسلامي في تصدير الوثيقة الدستورية وأسمى قانون في البلاد هو تعبير حقيقي على الإرادة السياسية للدولة في توطيد احترام الحقوق والحريات للمواطن من خلال التشبت بالثوابت الأساسية للأمة المغربية.
وفي هذا السياق يمكن أن نميز في مجال المعايير الدولية لحقوق الإنسان والحريات العامة بين حقوق الانسان المطلقة والحريات العامة المقيدة أو الخاضعة لأحكام التقييد. فبالنسبة للالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان المطلقة فهي لا تسمح للدول بالتحفظ عليها، لأنها ترتبط بحقوق أساسية متأصلة في الكائن البشري كالحق في الحياة والحرية والسلامة الجسدية.
لذلك، فالمواطن يتمتع بهذه الحقوق بصفته الإنسانية، فالإلتزامات المتعلقة بتحريم الإعدام خارج القانون والتعذيب والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري تكتسي طابع القاعدة الآمرة التي لا يجوز نقضها أو المساس بها ولا تسمح بممارسة أي سلطات واسعة سواء تقديرية أو تفسيرية من طرف الدولة بشأن تطبيقها.
ومن جانب آخر، تخضع الحريات العامة التي يمارسها الأفراد بشكل جماعي لأحكام التقييد، حيث تمتع الدولة المغربية بسلطة وضع الشروط التي تقيد ممارسة هذه الحريات الفردية والجماعية داخل المجتمع، ومنها احترام الثوابت الأساسية للأمة المغربية في الحياة العامة كما هو الشأن بالنسبة لاحترام الدين الإسلامي والدعامات الأخرى مثل الملكية الدستورية والوحدة الترابية، تحقيقا للحفاظ على النظام العام والأخلاق العامة.
إن عبارة "النظام العام"، كما تم إستعمالها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، يمكن تحديدها على أنها بمثابة القيم التي تؤمن سير المجتمع والمبادئ التي تحكم سلوك المواطن، فإحترام الحريان العامة هي جزء من النظام العام؛ إن أجهزة الدولة وأعوانها المكلفين بالحفاظ على النظام العام يخضعون، في ممارستهم لسلطاتهم، لمراقبة البرلمان والمحاكم، لتأمين احترام القيم الجوهرية للمجتمع.
هل نفهم من هذه المقاربة القانونية أن الإساءة إلى الذات الإلهية والدين الإسلامي من طرف الناشطة ابتسام لشكر لا يندرج في ممارسة حرية التعبير؟
إن أفعال الإساءة والسب والقذف المرتكبة من طرف الناشطة ابتسام لشكر في حق الثوابت الأساسية للأمة المغربية في الحياة العامة كما هو الشأن بالنسبة لاحترام الدين الإسلامي، تتوفر فيها أركان جنحة يعاقب عليها القانون الجنائي المغربي بموجب الفصل 267-5 ويشكل مساسا للنظام العام والأخلاق العامة.
هذا في حين أن حرية التعبير تتجسد في حق المواطن في الرأي بكل حرية فحسب، وإنما تشمل أيضا حق تلقي ونقل المعلومات إلى المواطنين، لذلك ينطوي حرية التعبير والرأي على بعدين أساسيين أحدهما فردي والآخر جماعي.
فالحق في حرية التعبير والرأي وتلقي المعلومات هو حق لكل مواطن بشكل فردي يتفاعل مع حرية الفكر والضمير والمشاركة الفعالة المساهمة في التنمية السياسية والإقتصادية للبلد.
إضافة إلى ذلك، فالحق في حرية التعبير والرأي هو حق جماعي يساهم في تشكيل الرأي العام ويسمح للمجتمع في الحصول على المعلومات الكافية عند ممارسة خياراته وممارسة نوع من الرقابة على مؤسسات الدولة في إطار المشاركة في إدارة الشؤون العامة للبلد.
فالمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تنص: "لكل فرد الحق في حرية التعبير وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أي نوع وإستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود، وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة وسواء كان ذلك في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها".
وإن حاولنا تحليل المقتضيات الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فسنجد أنها تعكس بشكل جلي كونية الحريات العامة، على أساس أن مبادئ حرية التعبير والرأي والتماس المعلومات ونقل الخبر هي ثابتة المضمون وتحمل نفس المقتضيات والدلالات بهدف الرقابة على مؤسسات الدولة في إطار ممارسة الحق في التنمية وإدارة الشؤون العامة للبلد. وليس المساس بالثوابت الأساسية للأمة المغربية في الحياة العامة كما هو الشأن بالنسبة للدين الاسلامي والملكية الدستورية والوحدة الترابية، فمساس الثوابت الأساسية للأمة المغربية يعتبر جنحة يعاقب عليه القانون ويشكل انتهاكا للنظام العام والأخلاق العامة.
أشارت لجنة الحقوقيين الدولية عام 1981على أن الدولة ملزمة بضمان حرية التعبير والرأي من خلال التنصيص عليها في الدستور والتشريع، وفي نفس المنحى أكدت الأمم المتحدة في إتفاقية Saragosa عام 1984 على مجموعة من المبادئ التوجيهية للدول في مجال إعمال حرية التعبير والرأي:
1- إن إعمال حرية التعبير يجب أن تخضع إلى للقيود المنصوص عليها في القانون.
2- إن القيود التي تحد من حرية التعبير لا يجب أن تكون تعسفية أو أن تعيق بناء أسس الديمقراطية.
كما ركزت إتفاقية Saragosa على تحديد مفهوم حماية النظام العام في مجال حرية التعبير، وذلك من خلال إلزام الدول بمبدأ أساسي: ضرورة خضوع أجهزة الدولة المكلفة بالحفاظ على النظام العام في مجال حرية التعبير لمراقبة البرلمان والقضاء.
يتبين أن مبادئ Saragosa خلقت نوعا من الترابط العضوي بين ممارسة حرية التعبير والرأي واحترام القانون والنظام العام، وفي هذا الصدد، أن أفعال الإساءة والسب والقذف المرتكبة من طرف الناشطة ابتسام لشكر في حق الثوابت الأساسية للأمة المغربية في الحياة العامة كما هو الشأن بالنسبة لاحترام الدين الإسلامي، تتوفر فيها أركان جنحة يعاقب عليها القانون الجنائي المغربي وتتنافى مع دور حرية التعبير في إرساء دعائم المجتمع الحداثي والبناء الديمقراطي. فحرية التعبير هي حجر الزاوية الذي يقوم على بناء المجتمع الديمقراطي ذاته، ولا يمكن الإستغناء عنها في تشكيل الرأي العام، وهي أيضا شرط لا غنى عنه لتنمية الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات العلمية والثقافية ولكل من يرغب في التأثير في المجتمع عموما. وهي تمثل بإختصار طريقة تمكين المجتمع من الحصول على المعلومات الكافية عند ممارسة خياراته. وبالتالي يمكن القول بأن المجتمع الذي لا يحصل على المعلومات الكافية ليس حقا مجتمعا حرا.
إلى أي حد يمكن للقضاء أن يضمن الترابط العضوي بين ممارسة حرية التعبير والرأي واحترام القانون والنظام العام؟
أكدت لجنة الحقوقيين الدولية عن مبدأ أساسي يهم علاقة القضاء بحرية التعبير في دورتها بمدريد ما بين 18 و20 يناير 1994، في سياق تأصيل الحق في الخبر وعدم التأثير في القضاء بتقديم تعليقات أو تحريف الوقائع من أجل استخلاص خلاصات معينة.
فأثناء مسطرة التحقيق يمكن أن تكون مصالح وسائل التواصل الاجتماعي والقضاء متضاربة، فاهتمام وسائل الإعلام بملف معروض أمام القضاء إثارة إهتمام الجمهور، حيث أن القيمة الإخبارية لقضية معينة ترتبط بالسبق الصحفي، فوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام تتنافس من أجل أن تكون أول من يمرر الخبر، وبالتالي فالخبر يقترن بالسرعة، أما المسطرة القضائية فتتبنى طريقة مغايرة تماما إتجاه نفس النازلة، لإنها تحترم الشروط التي ستسمح لها يوم المحاكمة بتقديم وقائع وحجج قانونية تروم ضمان المحاكمة العادلة.
لذلك فإن وصول الجمهور إلى الخبر يكون بصفة عامة، محدودا أثناء التحقيق الذي يشمل بحث الشرطة والجلسات التمهيدية، فهذا التحديد، الذي يهدف تفادي نشر تفاصيل المحاكمات من خلال الصحافة، تحكمه ثلاثة أسباب هي حماية الحياة الخاصة للأشخاص المتابعين والأطراف في القضايا المعروضة أمام المحاكم، الحفاظ على إستقلال القضاء وحماية فرضية البراءة.
فالسبق الصحفي قد يدفع وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام أحيانا إلى تحريف الوقائع وارتكاب خروقات يعاقب عليها القانون، مثل الكشف عن هوية الأشخاص في قضايا حساسة، فالمعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام قد تحمل على إستخلاص خلاصات معينة، فيما يتعلق بالمآل الذي سوف تعرفه محاكمة بعينها مثل نشر صور متهمين في قضايا على أنهم مجرمين قبل إصدار المحاكم للأحكام ونشر أسماءهم وأسماء ذويهم أحيانا.
وفي ذات الوقت، فمجموعة من المنابر الصحفية قد تساهم في ترويج المعلومات المتعلقة بملفات المحاكم ونشر تفاصيل يمنعها القانون. ففي إطار السبق الصحفي تتضمن صفحات التواصل الاجتماعي والجرائد الوطنية تفاصيل البحث التمهيدي ونشر أسماء وصور المتهمين المتابعين في القضايا التي تعرض أمام المحاكم، مما يشكل إنتهاكا لمبدأ قرينة البراءة وشروط وضمانات المحاكمة العادلة وحرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى على شكل يخالف المادة 41 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تمنع الصحافة من مساس حرمة أطراف الدعوى ومصلحة العدالة.
فوثيقة مدريد المتعلقة بالعلاقات بين وسائل الإعلام وإستقلال القضاء الصادرة عن لجنة الحقوقيين الدولية لعام 1994 تؤكد في ديباجتها على أن حرية الإعلام، هي جزء لا يتجزأ من حرية التعبير أساسية في مجتمع ديمقراطي تحكمه سيادة القانون. ويعود إلى القضاء أمر إقرار حرية التعبير وتفعليها من خلال منحها قرينة جوهرية ومن خلال عدم السماح، في حقها إلا بالقيود المشار إليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمنصوص عليها في قوانين دقيقة، دون سواها.