لم تكن كرة القدم يوماً مجرد رياضة تُلعب على المستطيل الأخضر، بل تحولت منذ عقود إلى مرآة تعكس مكامن الوعي الجمعي ومآزق الانتماء وأزمات الهوية. وما صدر عن بعض المعلقين والمحللين في قنوات "بين سبورت" القطرية بخصوص ترشيح النجم المغربي أشرف حكيمي للكرة الذهبية، ليس سوى دليل جديد على أن العروبة عند البعض لا تتجاوز حدود الشعار الفضفاض، وأن الأخوة الرياضية لا تصمد أمام إملاءات الدوحة أو باريس، أو أمام نزعة نفسية متجذرة في الكراهية تجاه كل ما هو مغربي.
لقد تابع ملايين المشاهدين كيف خرج عصام الشوالي، وهو الذي طالما ادعى أنه "ضمير الكرة العربية"، بتعليق أقرب إلى الصراخ الأيديولوجي منه إلى التحليل الرياضي، معلناً على الهواء مباشرة أن الكرة الذهبية "لن يرفعها حكيمي ولو على جثته"، وكأن الأمر معركة وجودية أو تصفية حسابات شخصية. ثم جاء الدور على وائل جمعة، الذي لم يجد حرجاً في أن يردد النغمة نفسها، وعلى محمد أبو تريكة الذي نسي ـ أو تناسى ـ مقولته الشهيرة عن نصرة الأخ حتى وهو ظالم، ليقف في صف الإملاءات القطرية والفرنسية معاً. إنها صورة بليغة عن انهيار القيم الأخلاقية حين تتدخل السياسة والمال في رسم حدود الموقف.
الأدهى من ذلك أن هذه الحملة ضد حكيمي لم تكن بريئة، بل اتخذت شكل تعبئة ممنهجة تستهدف صورة لاعب عربي مغربي أصبح رمزاً كروياً عالمياً. حكيمي لم يأتِ من فراغ، بل صنع مساره في أعتى المدارس الكروية، من ريال مدريد إلى باريس سان جيرمان، وأثبت بجدارة أنه أحد أفضل الأظهرة في العالم، بشهادة النقاد الدوليين والاتحادات الرياضية. غير أن كل هذا لم يشفع له عند بعض "الإخوة" الذين آثروا أن يكونوا أبواقاً للممولين، وأن يضعوا العداء للمغربي فوق أي اعتبار آخر، حتى ولو كان ذلك على حساب ما يدّعون من "وحدة عربية" أو "روح رياضية".
ما يجعل الموقف أكثر شناعة هو أن هؤلاء المعلقين لم يكتفوا بنقد فني موضوعي ـ وهو أمر مشروع ـ بل انزلقوا إلى خطاب عدائي صريح. تصريح الشوالي على وجه الخصوص لا يعكس فقط موقفاً شخصياً، بل يكشف عن ذهنية إقصائية تستبطن أن المغربي لا يستحق التتويج مهما بلغت كفاءته، وأن التقدير يجب أن يكون محصوراً في لاعبين فرنسيين أو أوروبيين أو في "المقربين" من قطر. وهذا ليس مجرد خطأ لفظي، بل موقف سياسي مقنع بلبوس رياضي.
إن هذه الممارسات تعري زيف الادعاء بأن "بين سبورت" قناة عربية جامعة، إذ كيف يمكن لقناة تدّعي الدفاع عن الرياضة العربية أن تسمح لمحلليها ومعلقيها بترهيب لاعب عربي ناجح لمجرد أنه لا يدخل ضمن حسابات باريس أو الدوحة؟ وكيف يجرؤ أبو تريكة على إلقاء الدروس في الأخلاق والتدين، ثم يشارك في هذا الاستهداف العلني لنجم عربي مسلم لمجرد أن ولاءاته لا تخضع لأسيادهم في العواصم المانحة؟
لقد كان من الممكن أن يفتح ترشيح حكيمي للكرة الذهبية باباً لإبراز صورة مشرقة عن العرب في المحافل الرياضية، تماماً كما فعل صلاح أو محرز في تجارب سابقة. لكن بعض "الأعراب"، كما وصفهم النص القرآني في معرض التحذير من النفاق، فضلوا الاصطفاف في خندق الضيق والحسد، رافضين الاعتراف بإنجاز مغربي يعيد الاعتبار لكرة القدم العربية والإفريقية. إنهم بذلك يسيئون لا إلى المغرب فقط، بل إلى صورة الأمة جمعاء، لأنهم يثبتون للعالم أن العرب لا يتقنون سوى التناحر فيما بينهم، حتى في أبسط مجالات الفرح الجماعي.
إن النقد المشروع يجب أن يبقى في حدود الأداء الفني والإحصائيات والمعايير الموضوعية التي تحكم الجوائز العالمية. أما أن يتحول إلى هجوم شخصي وعداء معلن، فهذا لا يمكن اعتباره سوى خيانة لقيم الرياضة وخيانة قبلها للعروبة. ومن حق المغاربة أن يتساءلوا: ما الذي يجعل هؤلاء المعلقين يعادون حكيمي بهذا الشكل الوقح؟ أهي أوامر فوقية من قطر التي لا تريد أن يزاحم لاعب مغربي مشروعها الرياضي الدعائي؟ أم هو انصياع لإملاءات باريس التي ترى في نجومها الفرنسيين مرشحين أوفر حظاً؟ أم هو فقط ذلك المزيج السام من الحسد والأنانية والولاء الأعمى؟
المؤكد أن التاريخ لا يرحم، وأن الشعوب العربية باتت أكثر وعياً من أن تنطلي عليها مسرحيات الولاء والاصطفاف. فقد أصبح المشاهد يدرك أن وراء الخطاب الإعلامي "الرياضي" حسابات سياسية ومالية، وأن بعض الأصوات التي تصرخ في الميكروفونات ليست سوى أدوات لتصفية الحسابات وتكريس التبعية. وحين يسقط المعلق في امتحان العروبة، فإنه يفقد شرعيته الجماهيرية مهما علا صوته أو حاول التبرير.
لهذا كله، يبقى الأمل معقوداً على أن يكون الجمهور العربي، والمغربي خصوصاً، أكثر صرامة في محاسبة هؤلاء المعلقين، وألا يمنحهم شرعية مجانية. فالعروبة لا تقاس بكثرة الشعارات على الشاشة، بل بمقدار ما ندافع عن بعضنا في المحافل الدولية. وأشرف حكيمي، بموهبته وإنجازاته، أحق بالاحترام من كل صرخات الحقد والعداء. أما الكرة الذهبية، فإنها ستظل في نهاية المطاف حكماً رياضياً خاضعاً للمعايير العالمية، لا لجثث المعلقين ولا لخطاباتهم المسمومة.