نبيل عادل: بين الذاكرة الوطنية والشرعية الدولية.. الأدلة المنطقية على استحالة استعادة الصحراء الشرقية

نبيل عادل: بين الذاكرة الوطنية والشرعية الدولية.. الأدلة المنطقية على استحالة استعادة الصحراء الشرقية نبيل عادل

في برنامجه اليومي على "يوتيوب"، دعا الدكتور عبد الرحيم المنار السليمي إلى فتح ملف الصحراء الشرقية، باعتبار أن وثائق تاريخية تثبت أنها كانت جزءًا من التراب المغربي. غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته من زاوية الذاكرة الوطنية، يبقى عقيماً من منظور الشرعية الدولية: فهل يمكن للمغرب أن يفتح جبهة نزاع جديدة فيما لم يُطوَ بعد نزاع الصحراء الغربية المغربية؟ وهل يخدم هذا الخطاب مصالح المغرب الاستراتيجية أم يمنح خصومه ذخيرة إضافية؟

لا أحد يمكنه أن ينكر قيمة الدكتور عبد الرحيم المنار السليمي، الذي راكم عبر سنوات من التحليل الإعلامي والبحث الأكاديمي حضوراً مؤثراً في الساحة المغربية. لقد عرفه الرأي العام بقوة مواقفه وجرأته في تفكيك السياسات الجزائرية والبوليساريو، حتى أصبح صوته مرجعاً يومياً لألاف المغاربة الباحثين عن بوصلة تفسيرية في محيط إقليمي متلاطم. غير أن هذا الرصيد لا يعصم صاحبه من النقد، خاصة عندما ينزلق الطرح من قوة التحليل إلى مغامرة سياسية غير محسوبة.

 

القانون الدولي: حدود ثابتة لا تُمس

القانون الدولي الحديث لا يُبنى على الحنين إلى أمجاد الماضي ولا على حجم الوثائق التاريخية التي نمتلكها. فمنذ إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً) وُضع مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار (Uti Possidetis Juris) كقاعدة ذهبية للحيلولة دون انفجار القارة في نزاعات لا تنتهي. هذا المبدأ أكّدته محكمة العدل الدولية في أحكام عديدة، منها قضية بوركينا فاسو ومالي (1986)، حيث قالت صراحة إن الاستقرار أولى من العدالة التاريخية.

إلى جانب ذلك، وقع المغرب والجزائر سنة 1972 معاهدة لترسيم الحدود، اعترفت بها الأمم المتحدة وأُودعت كوثيقة رسمية في أرشيفها. هذه المعاهدة تعني قانونياً أن أي حديث اليوم عن "مراجعة" أو "إلغاء" لتلك الحدود سيُعتبر خرقاً صريحاً لالتزامات المغرب الدولية وتهديداً للأمن والسلم الإقليميين. ومن نافلة القول إن الدولة التي تُصوَّر على أنها تنكرت لتعهداتها تصبح عرضة للتشكيك في كل ملفاتها الأخرى، وعلى رأسها الصحراء الغربية المغربية.

 

التاريخ مادة للذاكرة لا أداة للتفاوض

صحيح أن وثائق الأرشيف الاستعماري الفرنسي والإسباني تُظهر بوضوح أن المغرب كان يمتد إلى تندوف وبشار وربما أبعد من ذلك. وصحيح أيضاً أن الذاكرة الوطنية محقّة في استدعاء هذا الامتداد التاريخي كجزء من الهوية الجماعية. غير أن الانتقال من التاريخ إلى السياسة الخارجية ليس مجرد قفزة وجدانية، بل عملية معقدة تحكمها قواعد الشرعية الدولية وموازين القوى.

فالمغرب اليوم يخوض معركة دبلوماسية كبرى حول الصحراء الغربية المغربية، في نزاع عمره أكثر من خمسين سنة ولم يُطو بعد. هذا الملف هو المحك الحقيقي للسيادة المغربية، وهو المجال الذي يملك فيه المغرب أوراقاً تفاوضية صلبة: حدود متنازع عليها، واقعية مبادرة الحكم الذاتي، سحب الاعترافات بـ"البوليساريو"، دعم قوى كبرى كأمريكا وفرنسا وإسبانيا للموقف المغربي، وتدشين عدة قنصليات في العيون والداخلة.

فتح ملف جديد اسمه "الصحراء الشرقية" لا يعني إلا :

تقديم هدية مجانية للجزائر التي ستسارع إلى القول إن المغرب قوة توسعية

بعث رسائل غير مطمئنة لموريتانيا التي تتحسس كثيراً من هذا الموضوع.

تشتيت الجهد الدبلوماسي المغربي في معارك رمزية غير قابلة للتحقيق.

 

الأمثلة المقارنة: دروس من آسيا وأوروبا وإفريقيا

النزاعات الحدودية التي تستند إلى وثائق تاريخية ليست حالة استثنائية في العلاقات الدولية. غير أن السؤال الجوهري لا يكمن في قوة الوثائق أو وضوح الخرائط القديمة، بل في ما تكشفه التجارب المقارنة: كيف تعامل القانون الدولي مع هذا النوع من المطالبات، وما النتائج التي أفرزتها محاولات إعادة رسم الحدود تحت ذريعة الذاكرة التاريخية؟

الصين – تايوان: تعتبر بكين الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من أراضيها التاريخية. ورغم القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، لم يقبل المجتمع الدولي بهذه المطالب، وما زالت تايوان كياناً قائماً مستقلا بحماية ضمنية من الغرب.

روسيا – القرم: أعلنت موسكو ضم القرم سنة 2014 بدعوى التاريخ والهوية، لكن العالم اعتبرها خطوة عدوانية، وما زالت روسيا تحت عقوبات خانقة بسببها.

المجر – تريانون: تملك المجر حججاً تاريخية قوية للقول إن أجزاء من سلوفاكيا ورومانيا والنمسا "أراضٍ مجرية تاريخية"، لكن القانون الدولي أغلق هذا الباب، وظلت الحدود على حالها منذ 1920.

إفريقيا: رفعت عدة دول مطالبات إقليمية على أسس تاريخيّة، مثل الصومال في نزاع أوغادين مع إثيوبيا، ونيجيريا ضد الكاميرون حول شبه جزيرة باكاسي، وإريتريا ضد إثيوبيا حول بادمي. لكن هذه المطالبات تم احتواؤها أو تسويتها تحت مبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة من الاستعمار، الذي أقرته منظمة الوحدة الأفريقية في القاهرة سنة 1964، والذي أكد على احترام الحدود الاستعمارية لضمان الاستقرار ومنع النزاعات الإقليمية.

الخلاصة أن التاريخ وحده لا يصنع حقاً دولياً، وأن التوسع تحت لافتة الذاكرة الوطنية لا يجد أي صدى دولي حتى لوكان مدعوماً بالقوة العسكرية، وهو خيار لا يتماشى مع عقيدة المغرب في السلم والاستقرار.

 

أثر الطرح على صورة المغرب

عندما يخرج صوت وازن مثل الدكتور السليمي ليتحدث عن "الصحراء الشرقية"، فإن هذا الكلام – مهما كان مقصده – سيُقتبس في الإعلام الدولي كدليل على "نزعة توسعية مغربية". النتيجة: تعزيز الرواية الجزائرية التي لطالما اتهمت المغرب بالسعي لإعادة رسم حدود المنطقة. والأسوأ أن ذلك قد يُضعف حجة المغرب في الصحراء الغربية المغربية، التي نجحنا في تقديمها للعالم على أنها قضية استكمال وحدة ترابية وليست مشروع توسع.

 

الخلاصة:

إننا إذ نختلف مع الدكتور السليمي في هذا الطرح، فإننا نُصرّ على أن احترام مكانته الأكاديمية واجب. لكن النقد العلمي والسياسي يقتضي أن نقول:

إن القانون الدولي لا يترك أي مجال لمطلب استعادة "الصحراء الشرقية".

إن الأمثلة المقارنة تؤكد أن التاريخ، مهما كان قوياً، لا يترجم إلى إعادة رسم حدود.

إن المصلحة الوطنية العليا تقتضي التركيز على الصحراء الغربية المغربية، لا تشتيت الجهد في قضايا رمزية خاسرة.

في النهاية، يمكن القول إن النقاش حول "الصحراء الشرقية" سيبقى جزءاً من الذاكرة الوطنية ورصيدها الرمزي، لكنه لا يمكن أن يتحول إلى أجندة عملية في السياسة الخارجية دون أن يضع المغرب نفسه في مرمى نيران الشرعية الدولية. فالقانون الدولي، والحدود المرسمَة بمعاهدة 1972، والاعترافات الأممية الواسعة بالوضع القائم، كلها تجعل هذا الطرح أقرب إلى الحنين التاريخي منه إلى مشروع سياسي قابل للتحقق.

والأهم من ذلك، أن الانشغال بهذا النوع من الخطابات لا يخدم سوى خصوم المغرب، إذ يعزز سردية "التوسعية" التي تروجها الجزائر وحلفاؤها، في الوقت الذي يملك فيه المغرب أوراقاً تفاوضية أقوى وأقرب إلى التوازن الواقعي في ملف الصحراء الغربي المغربية، الذي لم يُطو بعد منذ نصف قرن.

لذلك، فإن الذكاء الاستراتيجي يقتضي أن نفصل بين حق الذاكرة وواجب السياسة، وأن نوجّه كل الرأسمال الدبلوماسي نحو تحصين مكاسب المغرب في صحرائه الغربية، بدل الدخول في مغامرات لفظية قد تمنح للآخرين ما لم يستطيعوا انتزاعه ميدانياً. فالسياسة، في النهاية، ليست استعادةً لأمجاد الماضي، بل إدارة للممكن في زمن معقد، حيث الشرعية الدولية أثقل من الذكريات، وحيث الخطأ في الإشارات قد يكلّف عقوداً من المكتسبات.

 د نبيل عادل، أستاذ باحث في الاقتصاد والعلاقات الدولية

عضو المجلس الوطني للحركة الشعبية