عبد الرفيع حميدي: التطوع كأداة للتنمية الترابية والدولة الاجتماعية والعدالة المجالية

عبد الرفيع حميدي: التطوع كأداة للتنمية الترابية والدولة الاجتماعية والعدالة المجالية حميدي عبد الرفيع

في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، وخاصة في البلدان النامية، برزت التنمية الترابية كإطار جديد لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع والمجال الترابي. هذه المقاربة تسعى إلى جعل التراب ليس مجرد حيز جغرافي، بل فضاءً للتفاعل والإنتاج المشترك بين مختلف الفاعلين المحليين، من أجل تحقيق تنمية مستدامة وعادلة.


وفي هذا السياق، يشكل العمل التطوعي والعمل الجمعوي رافعتين أساسيتين لدعم هذا المسار، من خلال تحفيز المشاركة المواطنة، وتعبئة الطاقات المحلية، وترسيخ قيم التضامن، بما ينسجم مع أهداف الدولة الاجتماعية ومطلب العدالة المجالية

التنمية الترابية: من الفعل المركزي إلى المبادرة المحلية

تُبنى التنمية الترابية على قناعة جوهرية مفادها أن أنجع الحلول التنموية تنبع من القاعدة، أي من خصوصيات كل مجال ترابي بما يزخر به من موارد بشرية، طبيعية وثقافية إنها مقاربة ترتكز على منطق "من الأسفل إلى الأعلى"، وتراهن على تعبئة الفاعلين المحليين وتنظيمهم في إطار مجتمعات ترابية قادرة على ابتكار حلول ذاتية لمشاكلها، عوض الاكتفاء بانتظار المبادرات القادمة من المركز

ولكي تؤتي هذه المقاربة أُكلها، فهي تفترض وجود دولة قوية ومؤطِّرة، تضطلع بثلاثة أدوار رئيسية

إعادة توزيع الموارد لضمان الإنصاف والتوازن بين الجهات

تُعد إعادة توزيع الموارد المالية والبشرية والمؤسساتية من الركائز الأساسية لتحقيق الإنصاف المجالي، وتجاوز الفوارق الصارخة بين المراكز والأطراف. ويقوم هذا المبدأ على توجيه جزء من الموارد الوطنية نحو الجهات التي تعاني من الهشاشة أو نقص البنيات الأساسية، من خلال اعتماد آليات تضامنية بين الجهات، وتخصيص نسب عادلة من الاستثمارات العمومية بناءً على الحاجيات الفعلية وليس فقط على منطق المردودية الاقتصادية

فعلى سبيل المثال، يمكن تخصيص صناديق تمويل خاصة بالمجالات المهمشة، وتقديم تحفيزات للمقاولات التي تختار الاستثمار في المناطق الداخلية، بالإضافة إلى توزيع الكفاءات البشرية في قطاعات التعليم والصحة والإدارة بشكل يراعي العدالة المجالية

كما أن تفعيل هذا التوجه يقتضي وجود مؤسسات جهوية قوية، لها صلاحيات تقريرية وقدرة على إدارة الموارد بشكل ينسجم مع خصوصيات كل مجال، في إطار لامركزية فعلية وحكامة ترابية تشاركية وبهذه الطريقة، تصبح إعادة توزيع الموارد أداة فعلية لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتعزيز الثقة في الدولة ومؤسساتها

القيام بدور الوسيط بين الفاعلين المحليين والمؤسسات الوطنية والدولية

يلعب الفاعل العمومي، وعلى رأسه الدولة، دور الوسيط المحوري بين الفاعلين المحليين (جماعات ترابية، جمعيات، تعاونيات، فاعلين اقتصاديين...) من جهة، والمؤسسات الوطنية والدولية من جهة أخرى. فغالبًا ما تفتقر المبادرات المحلية إلى الأدوات التقنية والموارد المالية أو حتى الإطار التواصلي لربط مشاريعها بالشبكات الأوسع

من هنا، تبرز أهمية الدولة كصلة وصل، تسهّل الولوج إلى التمويل، وتواكب حاملي المشاريع الترابية في بلورة ملفاتهم، وتترجم حاجياتهم في لغة مؤسساتية مفهومة على المستوى الوطني أو لدى الشركاء الدوليين مانحين، منظمات أممية، وكالات تنمية

كما أن هذا الدور الوسيط يتطلب من الدولة أن تكون منفتحة وتشاركية، تستمع إلى نبض الميدان، وتُشرك الفاعلين المحليين في بلورة التصورات التنموية، مع الحرص على ضمان التوازن بين القرب المحلي والفعالية المؤسساتية وبذلك، تتحول الوساطة من مجرد قناة إدارية إلى رافعة استراتيجية لتعزيز العدالة المجالية وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع

التنسيق الفعال بين مختلف البرامج والمشاريع على المستوى الترابي

يشكل التنسيق الفعّال بين مختلف البرامج والمشاريع على المستوى الترابي أحد الشروط الأساسية لنجاح التنمية المجالية المستدامة. ففي كثير من الأحيان، تعاني المبادرات العمومية والمحلية من التشتت والتداخل، أو حتى التكرار، نتيجة غياب رؤية مندمجة وآليات تنسيق واضحة بين القطاعات والمؤسسات المتدخلة

ويكمن دور الدولة والفاعلين الترابيين هنا في ضمان الانسجام بين السياسات العمومية وبرامج الجماعات الترابية والمبادرات الجمعوية، من خلال إرساء آليات حكامة تشاركية مثل اللجان الترابية، المخططات الجماعية، قواعد البيانات المشتركة

هذا التنسيق لا يقتصر فقط على البعد الإداري، بل يتعداه إلى خلق التكامل بين الموارد والجهود، وتفادي هدر الطاقات، وتسريع وتيرة الإنجاز، بما يسمح بالاستجابة الفعلية لحاجيات الساكنة المحلية

إن تحقيق هذا الانسجام بين مختلف المشاريع، سواء كانت ممولة من طرف الدولة، أو من جهات دولية، أو من المجتمع المدني، يساهم في تحقيق أثر ملموس على الأرض، ويعزز فعالية العدالة المجالية باعتبارها ركيزة أساسية للدولة الاجتماعية

العمل التطوعي والعمل الجمعوي كدعامة للتنمية الترابية

يمثل العمل التطوعي والعمل الجمعوي رافعتين أساسيتين لتفعيل مبادئ التنمية الترابية على أرض الواقع، إذ يتيحان الانتقال من التصورات النظرية إلى مبادرات ملموسة تنبع من خصوصيات المجال المحلي واحتياجات ساكنته من خلال تعبئة الطاقات البشرية والمعرفية المتوفرة محليًا، يُمكن التصدي لمجموعة من التحديات المجالية بطريقة مبتكرة وتشاركية، بعيدًا عن الحلول المفروضة من الأعلى

وتبرز أهمية التطوع في تنفيذ مشاريع صغيرة ومتوسطة ذات أثر ملموس، خاصة في مجالات التعليم، الصحة، البيئة، والثقافة، حيث غالبًا ما تتعذر تغطية هذه المجالات بشكل كافٍ عبر الإمكانيات العمومية وحدها كما يسهم العمل الجمعوي في تعزيز النسيج الاجتماعي، من خلال بناء علاقات الثقة والتعاون بين الأفراد، مما يرسّخ رأس مال اجتماعي قوي يُعدّ شرطًا أساسيًا لأي تنمية مستدامة ومندمجة

وفي هذا السياق، فرض التطوع الرقمي نفسه كنموذج مبتكر يواكب التحولات التكنولوجية والرقمية، إذ يوسع قاعدة المشاركة المجتمعية ويتيح الوصول إلى فئات جديدة، كما يمكّن من تنسيق الجهود ونشر المعرفة في وقت الأزمات، مثل الكوارث الطبيعية أو الأزمات الصحية، مما يمنح بعدًا استراتيجيًا جديدًا لمفهوم العمل التطوعي

التطوع في سبيل الدولة الاجتماعية والعدالة المجالية

تُعتبر الدولة الاجتماعية ركيزة لضمان الحقوق الأساسية لكافة المواطنين، في حين تمثل العدالة المجالية أداة لتصحيح الفوارق الترابية، من خلال توزيع منصف للفرص والخدمات بين مختلف الجهات والمناطق. ويكتسي العمل التطوعي، في هذا الإطار، أهمية استراتيجية باعتباره أداة مكملة للتدخل العمومي، تُسهم في سدّ الفجوات الخدماتية، خاصة في المناطق الهشة والبعيدة عن مراكز القرار

فمن خلال المبادرات التطوعية، يمكن توسيع دائرة الإنصاف المجالي، عبر توفير خدمات تعليمية، صحية، بيئية وثقافية في فضاءات غالبًا ما تعاني من ضعف البنيات الأساسية. كما يتيح العمل التطوعي انخراط الساكنة المحلية في تشخيص حاجياتها وتحديد أولوياتها التنموية، ما يعزز من شعور الانتماء والمسؤولية المشتركة وبذلك، يُسهم التطوع في تقريب الإدارة من المواطن، ليس فقط على المستوى الجغرافي، بل أيضًا على مستوى الثقة والفعالية الاجتماعية

غير أن هذا الدور المحوري يظل مشروطًا بوجود إطار قانوني وتنظيمي واضح ومؤطِّر، يضمن حماية المتطوعين، ويصون مبدأ عدم ربحية العمل التطوعي، مع الحيلولة دون خلطه بالممارسات المرتبطة بالتدبير المفوض، حيث أصبحت بعض الجمعيات تؤدي مهام مأجورة تُفرغ مفهوم التطوع من مضمونه النبيل

التجربة المغربية: واقع وتحديات

سلّطت مجموعة من المداخلات العلمية والحقوقية الضوء على رهانات العمل التطوعي في المغرب، كاشفةً عن تنوع القضايا المرتبطة به وتعقيد التحديات التي تواجهه. فقد تم التأكيد على الأدوار الحيوية التي يمكن أن يضطلع بها التطوع في تدبير الأزمات والكوارث الطبيعية، لا سيما من خلال الاستثمار الذكي لشبكات التواصل الاجتماعي في تعبئة الموارد وتنسيق التدخلات الميدانية بشكل سريع وفعّال.

كما حظي حضور النساء في العمل التطوعي بنقاش خاص، باعتباره تعبيرًا عن رغبة متزايدة في الإسهام المجتمعي، يقابله استمرار عدد من العوائق الثقافية والاجتماعية التي تعرقل مشاركة المرأة وتحدّ من إمكانات قيادتها في هذا المجال من جهة أخرى، برزت أهمية التطوع في تعزيز الوعي البيئي، من خلال مبادرات محلية لحماية الموارد الطبيعية، وتفعيل برامج للتنمية المستدامة تقودها مجتمعات مدنية نشيطة.

غير أن هذه الحيوية الاجتماعية تصطدم أحيانًا بممارسات بيروقراطية تُضعف من دينامية المبادرات التطوعية، فضلًا عن الغموض الذي يلف بعض الممارسات الجمعوية، خاصة عندما تُمزج بين العمل التطوعي المجاني والخدمات المؤدى عنها في إطار التدبير المفوض، مما يُفقد التطوع معناه النبيل ويكرّس نوعًا من تشغيل مقنّع.

أمام هذه التحديات، تعالت الدعوات إلى تأهيل الإطار القانوني للعمل التطوعي، عبر الإسراع بتفعيل قانون التطوع التعاقدي، ووضع ضوابط تضمن الشفافية، وتحمي المتطوعين، وتُميز بوضوح بين منطق الخدمة العمومية ومنطق الالتزام التطوعي الحر.

ولضمان فعالية العمل التطوعي كرافعة للتنمية الترابية وأداة لتعزيز الدولة الاجتماعية، تبرز الحاجة الملحّة إلى مقاربة شمولية تُؤطّره وتثمن أدواره المتعددة في هذا الإطار، توصي الأدبيات والممارسات الجيدة بعدد من الإجراءات الإستراتيجية، أولها إصدار وتفعيل قوانين حديثة تُنظّم العمل التطوعي وتحمي المتطوعين من كافة أشكال الاستغلال، مع تأكيد الطابع غير الربحي لهذا النشاط المواطني. كما يُقترح إحداث مرصد وطني للتطوع، يُعنى برصد الأثر المجتمعي للتطوع وتوجيه السياسات العمومية بناءً على معطيات دقيقة ومؤشرات واقعية.

ومن أجل تعزيز العدالة المجالية، يُستحسن إطلاق مبادرات وطنية موجهة نحو المناطق الهشة والنائية، تُشرك فيها الساكنة المحلية وتُبنى على مبدأ القرب والمشاركة. ويتطلب هذا التوجه أيضًا إدماج ثقافة التطوع في المناهج التعليمية، بما يُكرس قيم المواطنة، والتكافل، والانخراط المجتمعي منذ المراحل الدراسية الأولى

في المقابل، يتيح التطوع الرقمي فرصًا واعدة لتوسيع قاعدة المشاركة، وتجاوز العوائق الجغرافية والبنيوية، ما يستوجب تشجيعه وتوفير بنية تحتية رقمية داعمة ومن جهة أخرى، يجب تثمين أدوار النساء والشباب، باعتبارهم طاقات محورية في المشاريع التطوعية، عبر توفير بيئات آمنة ومحفزة لمبادراتهم

أخيرًا، إن تعزيز الشراكات بين الدولة والجمعيات يجب أن يتم على أساس مبادئ الشفافية، والفعالية، والاستقلالية، بعيدًا عن منطق التبعية أو تحويل الجمعيات إلى أذرع تنفيذية للمؤسسات العمومية. بهذه المقاربة المتعددة الأبعاد، يمكن للعمل التطوعي أن يتحول من مبادرة فردية إلى رافعة مؤسساتية لتحقيق العدالة المجالية والتنمية الشاملة.

خاتمة

التطوع ليس مجرد نشاط تكميلي، بل هو استثمار استراتيجي في الإنسان والمجال حين يُؤطر بشكل قانوني، ويُدمج في سياسات التنمية الترابية، يصبح أداة قوية لتحقيق الدولة الاجتماعية والعدالة المجالية ويعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويؤسس لنموذج تنموي قائم على التضامن والمشاركة الفعلية.